لم تكن عملية غزة إلا بداية مشروع إقليمي يبدأ بالدماء وينتهي على طاولة المفاوضات.. هكذا خطط عرابوه، وهكذا كانت أمنياتهم، لكنها لا تخرج في نهاية الأمر عن ثلاثة أهداف رئيسية.
وبالرغم من أن عملية السابع من أكتوبر كانت تهدف للإضرار بتوازن القوى والأمن المستمر في الإقليم من عقدين لأهداف تصب في مصلحة قوى إقليمية ووكلائها في المنطقة، إلا أنها في الوقت نفسه أدت لانكشاف سياسي وعسكري غير مسبوق أزال الكثير من «الستائر» السياسية والعسكرية التي بقيت منسدلة تخفي وراءها الكثير من الحقائق.
أولاً: تخريب مسار السلام الذي كان متوقعاً بين إسرائيل والفلسطينيين بوساطة سعودية أمريكية، وبالتالي إعاقة الدور السعودي كما خربوا اتفاق حماس والسلطة 2007، واغتالوا السلام اللبناني بقتل رفيق الحريري 2005.
ثانياً: القفز بتنظيم حماس ليكون الممثل الشرعي والوحيد للفلسطينيين بديلاً عن منظمة التحرير الفلسطينية، وتحويلها من فصيل يمارس الإرهاب إلى حزب سياسي، قادم برصيد عمليات كبرى يحقق لها المشروعية النضالية والسياسية معاً.
ثالثاً: تحقيق شعبية واسعة لحماس ومشغليها في العالم العربي، يتم من خلالها تحريض الشارع العربي مستقبلاً ضد حكوماته، وتحويلهم لجموع مختطفة تتبع أجندات ومخططات دول إقليمية لا تريد أن ترى الدول العربية إلا فاشلة ومتفجرة من داخلها.
لكن التخطيط لأي مشروع في المكاتب والفنادق الفارهة لا يعني قدرة المخطط السيطرة على النتائج وتداعياتها على الأرض وهو ما حصل فعلاً.
وبدلاً من إقامة حفلات الانتصار والتنافس على إلقاء الخطب الحماسية في ميادين بيروت وإسطنبول وطهران، بدأت حماس ورعاتها في معالجة التداعيات الكارثية لمشروع فاشل من أساسه.
وبدلاً من الاعتذار ومراجعة النفس حاولت حماس وكفلاؤها الهروب من الفضيحة بإلقاء التهم على (السعوديين)، أما لماذا؟؟
فلأن رمي التهم على الكبار يقود دائماً لنقاشات كبرى تحرف النظر عن الموضوع الأساس، وتغطي على جرائم حماس التي ارتكبتها في حق الشعب الفلسطيني أولاً، وحتى قبل إسرائيل.
حماس وأفرادها غير المنضبطين حولوا السابع من أكتوبر من عملية فدائية - على الورق - إلى كارثة إنسانية على شعب غزة بكل ما تعنيه الكلمة، وجرت المنطقة بكاملها إلى هوة سحيقة.
إلا أن ما تلا يوم 7 أكتوبر كان هو المهم، فقد تحول إلى هدية للمنطقة جميعاً، بالرغم من الآلام التي صحبتها.
أولاً: انكشاف حماس عند سكان غزة وأمام الفلسطينيين والجماهير العربية، فقد كان قادتها وممثلوها يقدمون أنفسهم كفصيل وطني قادر على إيقاف الآلة العسكرية الإسرائيلية وإلحاق الأذى بها، فإذا بها تفضح كمقاول هدفه إرضاء كفلائه وتحقيق مصالحهم على حساب المصلحة الوطنية الفلسطينية.
لقد كانوا يهددون بعشرات الآلاف من الصواريخ ويقيمون عروضاً عسكرية - كرنفالية - في شوارع غزة من يراها يعتقد أن حماس قادرة على التحرير، فإذا بها تتحول إلى مجرد كائنات تختبئ داخل الأنفاق بحثاً عن النجاة، ولعل الجميع يتذكر كيف روج قادتها أن غزة ستكون مقبرة للجيش الإسرائيلي ليتضح أنها كانت نزهة، ولولا الدور الدبلوماسي والضغط السعودي والأمريكي لاستبيحت غزة في أيام ولأصبح عدد القتلى بمئات الآلاف.
ثانياً: دخول إيران إلى الحرب المباشرة مع إسرائيل - بعدما تفادتها طويلاً - لينكشف حجم القوة العسكرية الإيرانية التي روجت عنها ووكلاؤها طويلاً، فإذا بها مجرد مبالغات دعائية وكأن تجربة صدام تتكرر مرة أخرى.
ثالثاً: الخلاف العميق داخل الدائرة الضيقة بين حماس الداخل والخارج، والتي كشفت أن الجناح العسكري متمرد على الجناح السياسي، فضلاً عن تململ سكان غزة من سلطة حماس.
رابعاً: تحقيق مصالح أمريكا في الإقليم دون أن تخسر رصاصة واحدة، بدءاً من إغلاق مضيق باب المندب مروراً بانكشاف حجم الآلة العسكرية الإيرانية، وأخيراً الحد من النفوذ الروسي والصيني في المنطقة الذي تراجع على حساب صعود الأمريكان مرة أخرى.
خامساً: الانكشاف الأمني الذي يمكن تسميته بالفضيحة، فقد استطاعت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية اصطياد قادة حزب الله والحرس الثوري الإيراني بكل سهولة، بل تحولت تلك العمليات إلى وجبات يومية في بيروت ودمشق.
لعل المخططين لأحداث السابع من أكتوبر لم يتوقعوا، ولو للحظة واحدة هذه النتائج الكارثية، وهو سوء في التخطيط وبلادة سياسية والعيش في الأوهام والأحلام الرومانسية البعيدة عن توازن القوى في الإقليم، لعلهم حلموا بانتصارات غير مسبوقة تجعلهم سادة الإقليم، لكنهم تحولوا إلى مجرد مطاردين بين الأنفاق في غزة، والعواصم الإقليمية خارجها بحثاً عن النجاة من مصير محتوم.