تتحدث الأمم المتحدة في تقارير بعض منظماتها عن التأثيرات الإيجابية للتقنية الرقمية في حياة البشر خلال السنوات الأخيرة من خلال ما وفرته من الاتصال الإلكتروني والشمول المالي والوصول للخدمات العامة والخدمات التجارية، وما يعنيه ذلك في ردم الهوة بين بني البشر وتحقيق المساواة بين فئات المجتمعات المختلفة، لكن هذه التقارير في المقابل تشير بوضوح إلى الآثار السلبية نفسياً وذهنياً واجتماعياً واقتصادياً، التي قد تنجم عن التقنية الرقمية خلال السنوات القادمة.
التغييرات بشكل عام ليست استثناءً في الحياة، فمن جيل لجيل هناك تغييرات مستمرة، والانتقال من مجتمع إلى مجتمع هناك، والقاعدة هي التغيير وليس الثابت في كثير من مناحي الحياة. لكن ما يجعل التغييرات الناجمة عن التحول الرقمي الحالي مختلفة عن سابقاتها من تحولات هو العمق، الشمولية والسرعة، وهذا ما يثير تساؤلاً حول مدى القدرة البشرية النفسية والذهنية والبيولوجية على الاستمرار في مواكبة ومجاراة هذه التغيرات، فضلاً عن الثمن والتكلفة في المقابل للتأقلم مع هذه التقنية الرقمية.
على الصعيد النفسي والذهني والاجتماعي، تتزايد المخاوف مما يسمى الإرهاق الرقمي، أي الاستخدام المتكرر والمستمر للتقنية والأجهزة وما ينتج عنه من إرهاق رقمي، بجانب المخاوف مما تتسبب به التقنية الرقمية من توتّرات وقلق مستمر نتيجة للضغوط النفسية المتسارعة في بيئة العمل، حيث أصبح كل مكان بيئة للعمل، ولم يعد مقتصراً على المفهوم التقليدي لبيئة العمل المعتادة. كما أن هناك مخاوف من العزلة الاجتماعية وما يصاحبها من تدني معدلات التفاعل بسبب الاكتفاء بالتفاعل مع الأجهزة والتقنية فقط.
ناهيك عما تتسبب به التقنية الرقمية من ظهور طبقية وفوارق اجتماعية من حيث الوصول للتقنية حسب الإمكانات المادية والدور الاجتماعي، بالإضافة لما يطرأ على العلاقات الاجتماعية والأسرية من تغيرات. كما أن فقدان الخصوصية والأمان الشخصي من الآثار الناجمة عن استخدام التقنية الرقمية والتي تبعث على الاهتمام والدراسة.
أما الآثار المتعلقة بالجانب الاقتصادي من جرّاء التقنية الرقمية، على مستوى الفرد والأسرة والمجتمع والمؤسسة، فحدّث و لا حرج. فالبطالة وتآكل فرص العمل شبح يخيم على طالبي العمل، والتكاليف العالية للاستثمار في التقنية والأمن السيبراني المصاحب للتقنية عبء كبير على ميزانية المؤسسات، خاصة الصغيرة والمتوسطة منها، وميزانيات برامج التدريب وإعادة التأهيل المصاحبة والمستمرة للّحاق بمستجدات التقنية الرقمية ومنتجاتها وتحديثاتها، بجانب التغيرات المستمرة في الهياكل التنظيمية للمؤسسات تبعا لظهور مهن جديدة واختفاء مهن أخرى.
الآثار النفسية والذهنية والاجتماعية للأفراد والمؤسسات الاجتماعية والمهنية ليست سهلة وليست عابرة ولا تخص شريحة قليلة، ومستمرة الآن ومستقبلاً ما دامت التقنية الرقمية مستمرة بمنتجاتها واستخداماتها وتحديثاتها. ومن هنا أرى أن هناك حاجة لوقفة عاجلة من «المجتمع والجهات الرسمية» لدراسة هذه الآثار وضحاياها المحتملين والحقيقيين، وأن يصار إلى مؤسسة أو جهاز يتولى القيام بإعداد الدراسات وتقديم التوصيات واقتراح المعالجات العاجلة والآجلة والتي يمكن أن تحد من تلك الآثار وتخفف عن ضحاياها وتستعيدهم وتمكّنهم نفسياً وذهنياً واجتماعياً واقتصادياً.