أعادت انتخابات الرئاسة المصرية الأخيرة الجدل حول إقصاء جماعة الإخوان المسلمين من المشهد، وقانونية هذا الإقصاء، وأثره على مفهوم الديمقراطية وحرية الرأي وتشكيل الأحزاب، مع إشارات غامزة إلى أن محمد مرسي هو الرئيس الوحيد الذي وصل إلى كرسي الحكم في مصر عن طريق الانتخابات.
وأرى أن كل هذا إما ناتج غفلة تستوجب الانتباه، أو مخاتلة تستبطن أجندة ملغمة، أو على أخف التقديرات نظرة بنصف عين، وقراءة تقفز فوق السطور.
فلا بد أن نقرر أمراً مهماً يتصل بالديمقراطية نفسها، فهي مجموعة مفاهيم مجتمعة تنشد الاستقرار للمجتمع الذي يجعلها أسلوباً لإدارة الحكم فيه، ولها أدواتها ووسائلها، ومن بينها الانتخابات، فمن الخطل اعتبار مجرد إجراء الانتخاب والوصول إلى كرسيّ الحكم عبر الاقتراع موجباً للقول بديمقراطية الفائز أو المنتصر، وإنما تتأكد مفاهيمه الديمقراطية من خلال التزامه الكامل بقواعد اللعبة، والخروج من عباءة محفوظاته الأيديولوجية إلى براح الاتفاق المتفق عليه في المشاريع الوطنية على اتساع ورحابة قوانينها وقواعدها المستوعبة لكافة الأفكار. وهو ما لا يتوفر لجماعة الإخوان المسلمين، بالنظر إلى جذور تفكيرهم وأصول معتقداتهم، التي يمكن الاهتداء إليها بكل سهولة ويسر في ثلاثة كتب تمثل المرتكز الفكري والمستقى الذي تكرع منه هذه الجماعة، وهي «في ظلال القرآن»، و«معالم في الطريق»، و«العدالة الاجتماعية في الإسلام»، وثلاثتها من تأليف سيد قطب وفيها تقبع أفكار في غاية الخطورة، أسّست لكافة الجماعات التكفيرية والإرهابية ومن بينها «الإخوان»، التي تتسمى بالإسلام زوراً وبهتاناً، بما يجعل من فكرة تصنيفها على اعتبارها جماعات إرهابية، وتبعاً لذلك يجعل إقصاءها من المشهد أمراً حتمياً لا يناقض قواعد اللعبة الديمقراطية بأي حال من الأحوال، فليس من الحكمة في شيء أن تستصحب معك في التنافس من لا يؤمن بقواعده، ولا يلتزم بأدبياته، وإن خضع لها فما ذلك إلا ضرب من المختلة، و«تقية» يتخذها سبيلاً للوصول والانقضاض، حتى يمكّن لنفسه على رقاب الآخرين، ولات حين مهرب من عسفه وتنكيله ورؤيته الأحادية المعتسفة.
فبأي منطق أو عقل يجوز لمن يرى في الأوطان «مجرد حفنة تراب»، وأن «حب الوطن انفعال بشري سخيف»، وأن فكرة الوطن تتوازى عنده مع الخلافة الراشدة والأمة المسلمة، أن يكون منافساً للحكم وباحثاً للسلطة تحت مظلة الديمقراطية؟! فهذا المفهوم الغريب عن الوطن جهر به سيد قطب في كتاب «الظلال» وعمّقه في «المعالم»، وأكد عليه في «العدالة الاجتماعية»، فمن لا يؤمن بفكرة الوطن أصلاً كيف له أن يكون جزءاً من منظومته الحاكمة، إلا إذا أراد «لوطنه» أن يخرج من حدوده ليكون نصيراً لفكر الجماعة كلها، على نحو ما حصل في السودان منذ أن هبط عليه «الإخوان» بانقلابهم في العام 1989م، وحوّلوه إلى مسرح لعبثهم وساحة لتفريخ «الإرهابيين» ومحضناً للتكفيريين؛ فأذاقوه الهوان على مدى عقود ثلاثة، وانتهى به الحال اليوم الى حروب وتشرذم وضياع وتفتيت.
إن هذا المفهوم الخاطئ عن الوطن، تناظره في المقابل فكرة «الحاكمية» لدى الإخوان، التي تناسلت لتفرّخ في تخلقاتها المتطرفة مفاهيم «العصبة المؤمنة»، وما ترتب على ذلك من «وعد التمكين» ووعيد «تجهيل المجتمع»، بما أسّس لمفهوم «الجهاد» ضد المجتمع بوصفه «جاهلياً»، وحتمية رده إلى الإسلام في نموذجه الأول.
هذا عين ما يقوله سيد قطب نصّاً في «الظلال»: «إن الجاهلية ليست فترة ماضية من فترات التاريخ، إنما الجاهلية كل منهج تتمثل فيه عبودية البشر للبشر، وهذه الخاصية تتمثل اليوم في كل مناهج الأرض بلا استثناء، ففي كل المناهج التي تعتنقها البشرية اليوم يأخذ البشر عن بشر مثلهم: التصورات والمبادئ، والموازين والقيم، والشرائع والقوانين، والأوضاع والتقاليد».
ويزيدك من ضغثه إبّالة بقوله: «والجاهلية ليست فترة تاريخية، إنما هي حالة توجد كلما وجدت مقوّماتها في وضع أو نظام، وهي في صميمها الرجوع بالحكم والتشريع إلى أهواء البشر»..
فمن أصل هذه الشجرة الخبيثة تأسّس الفكر الإخواني، وجعل همه محاربة المجتمعات وتكفيرها وتبديعها وتفسيقها، وإحالة حياتها جحيماً، وجعل من حتمية الصراع الدموي سبيلاً لنسف مستقر حكمها، وآمن سربها، محتكرين في خطابهم الوعد الإلهي بالنصرة والتأييد والتمكين بفوقية واستعلاء، تتراءى لهم في مخاييلهم المريضة أمنيات سيد قطب الشائهة في قوله: «وأعطاهم الاستعلاء الذي ينظرون به إلى قطعان البشرية الضالة في أرجاء الجاهلية المترامية الأطراف في الأرض فيحسون أن الله آتاهم ما لم يؤتِ أحداً من العالمين»..
فهل من يرى في الناس جميعاً مجرد «قطعان بشرية» على جاهلية، حري بأن تفرد له مساحة، أو يعطى حقاً في التنافس على اعتلاء منصة الحكم، والتسلط على رقاب الناس؟!
إن الحكمة كل الحكمة في التضييق والحجر على جماعة الإخوان، وعدم السماح لهم بالوصول إلى سدة الحكم في أي مكان، ولنا في السودان عبرة وعظة، وفي فترة حكم «مرسي» على قصرها والحمد لله آية دالة على خطر هذه الجماعة التي عاثت في الأرض فساداً، فأين ما حل «الإخوان» حل الدمار والبؤس، ونعق بوم الخراب.