في حياتي المتأخرة، عشت اثنين من الآلام؛ توجُّع والدي ومرضه الذي أنهك قواه لما يقرب من عقد ونصف من الزمان.. ثم وجع فقدانه بوفاته قبل أيام، رحمه الله رحمة الأبرار.. هذان الشعوران لم أكابدهما لوحدي إنما سرى في دواخل أسرتي وقرابتي، بحكم أنه عميد أسرة «آل رمضان».. ألم الفقد ومكانة والدي لدى الأسرة والقبيلة؛ جعلاني أتحامل على نفسي ونفسيتي المتأثرة بفقده لأنصرم صوب أصعب أنواع التدوين (الكتابة عن الفقد)، لما بها من عِبرة وكُربة وفزع وأسى وحنين.
ألم فراق ذلك الشيخ الوديع الساكن اللين النجيب الخاشع المتواضع الذي داهمه الوجع منذ سنوات حتى وفاته؛ سحب بساط السعادة من تحت أقدام من كان حوله في مرضه.. رجالاً ونساءً من أبنائه وقرابته وأصهاره وأحفاده الذين تحلقوا حوله وأحاطوا به فطوقوه برعايتهم وعنايتهم حتى أتته المنية.. فبكت أعين أفئدتهم وتورمت رموشهم بدمع مدرار حزناً على فراق سيد قومه وشريفهم «سعد بن رمضان العمري»، الذي شاهدنا على وجهه الوجيه عقب وفاته إشراقة من بهاء وشروق من عظمة رجل قدم كثيراً في حياته ولم ينتظرالثناء من أحد.
هأنذا وكل أسرتي وقبيلتي نودع أبي المُلهم الهادي الدافي الحكيم الكريم.. نودع الترسانة المترعة بالفطنة والحكمة والحلم والعلم والأناة.. نودع من كان ممسكاً بالبساطة، متحلياً بالفراسة، متيماً بالعصامية.. وعند الاستفهام التعجبي: هل تروي الدموع غليلاً أو تعيد مفقوداً رحل إلى خالقه؟؛ همس قلبي الصدوق مع نفسه: «سامحني يا الله على «أمر قد قُدر».
أبي الذي عاش الإعاقة بكل آلامها ومعاناتها، راضياً محتسباً صابراً؛ داهمته جلطة في المخ استمرت معه 14 عاماً تسببت في شلل الجزء الأيمن من جسده الطاهر، لكنه ظل راضياً صابراً محتسباً، لم يسخط ولم يتسخَّط، إنما كان على الدوام يشتكى إلى من إليه معاد العباد.. ذلك الروح القوي الصبور والقلب الخاشع الصدوق؛ مكَّنه من السعادة الدائمة، فكان يستقبل عواده بالابتسامة والطرافة التي يخفي خلفهما آلامه كي لا يتألم من حوله.. ولعل تلك المعاناة الطويلة المقترنة بالصبر والاحتساب مهرها «الجنة».
أخيراً:
ثمة مراحل يمر بها الفاقدون؛ أصعبها لحظة الفراق، فمنهم من يصمت مؤقتاً، ومنهم من يتفجر بكاء، ومنهم من يؤجل ألمه، وآخرون تزداد الآمهم شراشة عندما يستدعي ذكرياته مع من فقده.. فاللهم اربط على قلوب هزها وجع الفقد، ورحم الله أروحاً نقية أوجعنا غيابها.