الكاتبة التشكيلية إعتدال عطيوي.. ذاكرة، وتاريخ تحولات للمجتمع الجداوي، فهي بحكم الذائقة عاشت وعايشت واكتسبت مهارة التصدي للنسيان، وكما هي في حروفها الأنيقة، ولوحاتها الفاتنة تحضر معنا في هذه المسامرة لتروي بعض فصول زمان ومكان وإنسان.
• من كانت قابلتك أثناء الولادة، ومن الذي اختار لك اسمك ؟
•• طبيبة مصرية اسمها إحسان، من أشهر الطبيبات اللواتي عملن في مدينة جدة، لأن والدتي رفضت الداية التي كانت تولد النساء في ذلك الوقت، وأمي اختارت اسمي بطلب من أختها.
• هل احتفلت أسرتك بقدومك، ما نوع الاحتفال ؟
•• احتفوا بقدومي أيما احتفاء، فأنا الابنة الأولى، وأمي كانت صغرى أخواتها، وزوجوها مبكراً فاحتفت بي الأسرتان، وجئت للدنيا طفلة جميلة غزيرة الشعر مفتوحة العينين، ما أثار دهشة الجميع.
زوجة خالي.. أمي
• ماذا يعني لكِ الانتماء لمدينة جدة ؟
•• جدة مدينتي الغالية عشقي، فهي أهلي، وذكرياتي، وشريط عمري كله لها وفيها. عشت فيها كل شيء الطيبة والحنان والدراسة والعمل، وعشتها كيف نمت تدريجياً وعشنا البحر والتخييم والسباحة وتحذيرات الدوامة التي تخطف عشرة أشخاص في كل سنة كما تروي الحكاية الشعبية، وزيارات الجزر المحيطة مع (خالي) في قارب أو «لنش»، كما كانوا يطلقون عليه، حيث نمضي مع أصدقاء يوماً أو يومين في الجزر. جدة الميناء حيث كنا نصعد إلى السفن الكبيرة لنشتري من أسواقها كل جديد ولأول مرة نتذوق الكعك الإنجليزي، والشوكولاتة، كل ذلك النشاط كان مع خالي، فقد كنت ملازمة له في طفولتي وشبابي وكل حياتي.
كما كان أبي يأخذنا إلى الميناء لنصعد البواخر المحملة ببضاعة جدي من الصومال والسودان، ونلتقي صغار الماعز لتربيتها في مزرعتنا، لأن البداوة لم تجف عروقها فينا أبداً.
وساهمت أمي الأخرى، زوجة خالي، في تربيتي، إذ كنت أقضي جل وقت طفولتي في بيت خالي، وهي الزوجة وابنة العم، وهي من كانت تقص وتحكي وترد على الأسئلة وهي قلب كبير وإنسانة نادرة لم ولن يكون لها مثيل. وكنت أشترط أنه لا نوم بدون حكاية وكانت تملك زخماً وجدانياً وثقافياً متدفقاً، أثرت ذاكرتي وقلبي به، أما والدتي فلا تميل إلا للجديد من كل شيء.
صايم وراء الزير
• كيف كانت بدايتك مع الصيام ؟
•• تدرجت في الصيام كأي طفل، ربع يوم ثم نصفه، ولم يكن أهلي شأن بقية أهل الحجاز صارمين مع الأطفال بل يغضون الطرف مراعاة لعمر الطفل وقدرته، وكانوا يرددون «صايم وإلا من ورا الزير».
• ما الحدث الذي يسكن ذاكرتك وتستعيدينه في رمضان ؟
•• أهم حدث في رمضان كانت العمرة، إذ أرتدي زي المعتمرة الصغير وأحمل مطبقية طعامي، وهي إناء صغير كان يصنع للأطفال يشبه تماماً الإناء الكبير، ثم أذهب مع أسرتي للحرم وما زلت أحتفظ به إلى اليوم كبقية ألعابي.
• ما هو السحور ؟
•• كان أهالي جدة يتسحرون على الحوت والأرز الأبيض، واستمررنا على ذلك فترة طويلة ثم تغير كل شيء.
• بماذا كانت العائلة تكلفك ؟
•• لم أكن أكلف بأي نشاط إطلاقاً، كنت أقرأ وأرسم فقط ولا أحب المطبخ.
• بماذا تميزت عن قريناتك ؟
•• حباني الله بالكثير من النعم، ولكل شخصية بصمتها الخاصة ولكل امرئ إمكانياته، ولا أقارن نفسي بأحد أبداً.
• ماذا عن أصدقاء الطفولة ؟
•• كان وما زال لدي الكثير من صديقات المدرسة والجامعة والأنشطة المختلفة، ولكن لمنزلنا الذي كان ضخماً لأسرة ممتدة، كان له نظام خاص متشدد إلى حد لا يسمح لنا بالخروج أو الاختلاط ولو بالأقارب إلا في أضيق الحدود، رغم أنه كان مفتوحاً للضيوف في أغلب الوقت، وكانت جدتي لأبي تملك صالوناً اجتماعياً معروفاً، وكان للضيوف من الرجال أجنحة كاملة خاصة تستقبل من داخل البلد وخارجها، إلا أننا كأطفال شبه معزولين عن ذلك النظام، ومتنفسنا الوحيد الحديقة الكبرى وقطف ثمار الأشجار أو اللعب في بركة السباحة، أو لعب «العُزّيزا» في برحات البيت الكبير، أبناء وبنات، نلعب سوياً بالدس، عندما تنام الأمهات ثم كبرنا قليلاً فمنعنا تماماً.
• ما أثر أسرتك عليك ؟
•• كان أثراً ثرياً بين أسرتين من أكبر الأسر في جدة محاطة بعدد كبير من الناس، والأحداث والحكايات، ومنحني الكثير من الدهشة والعمق والاعتزاز، كما علمني أن الأهل عزوة لا تفارقك حتى وإن فارقتها، وأن الدنيا متغيرة وتحتاج الكثير من الصبر والكفاح، ولو ولدت في فمك ملعقة من ذهب فلا تضمن أنها ستبقى في فمك، لذا شق لنفسك طريقك الخاص.
• على ماذا كنتم تفطرون ؟
•• شوربة الحب، والسمبوسك، والفول إلى آخر رمضان مع بعض التعديلات.
• ماذا تتابعين من برامج تلفزيونية ؟
•• لا أتابع أي برامج في رمضان إلا فيما ندر، وربما يجذبني البعض كنت أتابع صوت العرب قديماً ثم توقفت عندما قل جذبها.
كتب التاريخ القديمة
• ماذا قرأتِ من كتب في رمضان ؟
•• قرأت كل كتب التاريخ القديمة في رمضان، العقد الفريد والبداية والنهاية والأغاني، وغيرها من عيون الأدب العربي المهمة، الآن أقرأ القليل من كل شيء.
• أي ذكرى تعتزين بها ؟
•• كنت نادراً ما أقضي العيد ورمضان مع أسرتي، كان يهمني جداً أمر المرضى، وتحقيق أقصى ما يمكن من راحة ومتابعة الزيارات، وفي أواخر رمضان كنت باعتباري رئيسة قسم نستعد للعيد ونزين المستشفى؛ لاستقبال العيد ثم نوزع الهدايا على المرضى لرفع معنوياتهم، وإضفاء البهجة عليهم، العمل جماعي في الحقيقة، ولكن التخطيط والإشراف مهمتي لا أترك أمراً للصدف، وأعود لمنزلي في نهاية المطاف في منتهى السعادة رغم هول التعب.
أما ذكرياتي الذاتية عن رمضان، فهي الاجتماعات الأسرية وعزائم الأقارب واستعدادات رمضان، ابتداء من قائمة الاحتياجات أي المقاضي، وتهيئة المكان قديماً، وحضرت في طفولتي التقشيع أو تغطية الأثاث والاكتفاء بالجلوس على الحنابل والخسف في حجرة كانت تسمى الصفة في بيت جدتي، ثم تغير ذلك بعد تغير النظام الاجتماعي جميعه، ويبدأ الاستعداد للعيد وشراء الملابس والحلوى وتهيئة المنزل، وكنت أشارك والدتي في ذلك، إذ يقع عليها كل الأعباء لأن والدي تاجر لا وقت لديه للاهتمام بتلك الأمور، وكنا سعداء أيضاً بهذه التحضيرات.
• هل لك ميول رياضية ؟
•• ميولي الرياضية منعدمة منذ وقت طويل.
الألم في مواجهة الموت
• من هو مطربك الأثير ؟
•• طلال صوت الأرض، وأم كلثوم، وكل الغناء الحجازي القديم الذي أحفظ معظمه، وأملك مكتبة موسيقية جيدة فيها نوادر.
• لماذا يتراجع عدد الصديقات والأصدقاء ؟
•• يتراجع عدد الصديقات، ولكني أنا لا أسمح بذلك وأظل أواصل ويواصلوني والحمد لله، لديّ صديقات منذ أيام الدراسة بمراحلها المختلفة إلى الآن.
• حكمتك ؟
•• لكل وقت حكمته، ولكن علمتني الحياة أن كل ذلك الوقت سيمضي سواء كان حزناً أو فرحاً.
• ماذا عن مواقف العمل ؟
•• بحكم طبيعة عملي أخصائية اجتماعية ونفسية لمدة ٣٠ عاماً، اختلطت كل المشاعر بين الفرح والألم والخذلان والانتصار وتحقيق الذات وغيره، وكنت بداية عملي أتألم كثيراً في مواجهة الموت والوجع والقطيعة، ثم تعلمت كيف أساعد غيري وأخفف عنه، كل ذلك وهنا مكمن رضاي وفرحي، يكفي أنك تطلق لو نصف ابتسامة، أو تمسك بيد في محنة، أو تكون كلمتك بلسماً ولو خفيفاً على جرح ما، عشقت عملي جداً ولكن آن الأوان للراحة.