خلال الأيام القليلة الماضية تابعت منجزات مجلس التعاون لدول الخليج العربية بمناسبة مرور الذكرى 43 على تأسيس المجلس، فكانت البيانات والتقارير ولقاءات معالي الأستاذ جاسم البديوي الأمين العام للمجلس تزخر بالكثير من الأرقام والإحصاءات اللافتة والواعدة بإذن الله وفي مختلف القطاعات والمجالات التنموية والمالية والرقمية والطاقة البنية التحتية والنقل.
وحدها اللغة العربية بقيت بعيدة عن الإنجازات وخارج دائرة الأرقام والإحصاءات الإيجابية أو حتى السلبية. تبحث لغتنا العربية عن هويّتها في عقر دارها وبين أهلها، تتلمس موطئ قدم بين كمية ونوعية اللغات الأجنبية المحكية في الشارع والمكتوبة في الإدارة والأعمال، لغات داهمت لغتنا في عقر دارها واستوطنت مدارسنا ومؤسساتنا الحكومية والخاصة واستعمرت عقول أهلنا وألسنتهم. غربة حالكة تعيشها اللغة العربية في كثير من الدول العربية بما فيها دول الخليج العربية، رغم كثرة المؤسسات والمراكز والمجامع والكليات المتخصصة والمهتمة والمعنية المكررة باللغة العربية.
قد يستغرب البعض من تساؤلي عن ربط اللغة العربية بإنجازات دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية ومطالبتي لأمانة مجلس التعاون لأخذ أزمة اللغة العربية في دول مجلس التعاون الخليجي على محمل الجد. فكل الدول العربية مطالبة بالتحرك العاجل المدروس لإنقاذ ما تبقى من اللغة العربية والهوية اللغوية، لكن مجلس التعاون لدول الخليج يقع عليه العبء الأكبر، للأسباب التالية:
1- اللغة العربية انتشرت في العالم وأصبحت لغةً عابرةً للثقافات والعصور، ليس بذاتها وأبجديتها ومواصفاتها الشكلية أو الموسيقية والبلاغية فحسب، وإنما انتشرت العربية وأصبحت لغةً عابرةً للثقافات والعصور بسبب المحتوى المهم والمتميز الذي حملته ولا تزال. لذلك من الخطأ الفادح معالجة أزمة اللغة العربية ومحاولة النهوض بها وتطويرها وتقويتها كلغة بمعزل عن المحتوى الذي تحمله والذي يأتي في المقام الأول من البلدان العربية. ولأن الاقتصاد الخليجي هو أقوى من أي محتوى خليجي آخر، من هنا، علينا أن نعمل على ربط الاقتصاد الخليجي باللغة العربية، واستثمار «العالمية» التي حققها الاقتصاد الخليجي وذلك بإنتاج محتوى اقتصادي عربي خليجي يحقق العالمية السريعة للغة العربية ويثبت أركانها، بعد ذلك يمكن تقديم محتوى ثقافي واجتماعي ورياضي ومحتوى في الطاقة بجانب المحتوى الاقتصادي الخليجي العربي ككل. فالاقتصاد الخليجي هو المحتوى القادر على الوصول العالمي والتأثير العالمي وهو القادر على تقديم اللغة العربية للعالم، شريطة إيجاد تشريعات وآليات تلزم المؤسسات الحكومية وغير الحكومية في دول المجلس استخدام العربية تحدثاً وكتابة ورقمنةً. واشتراط إجادة العربية على من يتقدم لحمل الجنسية لإحدى دول المجلس.
2- هناك إستراتيجية ثقافية خليجية حتى عام 2030 وفي الحقيقة هي لا تختلف عن الإستراتيجيات النمطية السائدة المكررة والمستنسخة منذ عشرات السنين في كافة المؤسسات الثقافية العربية مثل الأنشطة في ما يعرف بـ «اليوم العالمي للغة العربية» و«عام الخط العربي» و«عاصمة الثقافة العربية» وإلى آخره من عناوين فقدت محتواها ومعناها وذلك لتقليديتها ونمطيتها وعشوائيتها فهي وإن كانت مقبولة في الحد الأدنى من العمل الثقافي، إلا أنها بعيدة كل البعد عن وقف التدهور السريع للغة العربية، والتشظي المركب والمتزايد للهوية اللغوية العربية. لكن مركز اللغة العربية في عمان والمنبثق عن الإستراتيجية الثقافية الخليجية، لا بد من استقلاليته عن وزارات الثقافة؛ لكي تتاح له الفرصة للتفكير خارج صندوق وزارات الثقافة، ولكي يعمل هذا المركز بشراكة وفرق عمل مشتركة بين خبراء اللغة العربية وخبراء الرقمنة وخبراء الاقتصاد وخبراء الابتكار والاختراعات للبحث في استثمار الرقمية والخوارزميات والذكاء الاصطناعي والابتكارات لتكون في خدمة العربية وليس ضدها. أرى ضرورة إعادة النظر بتبعية مؤسسات اللغة العربية لوزارات الثقافة التي ربما كانت سبباً في تدهور اللغة العربية.
3- هناك حاجة ملحّة لتغيير منهجيات تدريس اللغة العربية المعمول بها الآن ومنذ العصر العباسي، وهذه مهمة انبرى لها بعض المؤسسات الأكاديمية واللغوية، لكنها لم تفلح حتى الآن في التوصل لوضع منهجيات علمية حديثة لتصبح مرجعيّة عالمية لتدريس اللغة العربية في الوطن العربي وخارج الوطن العربي. ومجلس التعاون مؤهل للعمل على هذه المهمة من خلال مركز عُمان أو أي آلية أخرى يراها مناسبة، فرغم أن هذه المهمة كانت من صميم عمل جامعة الدول العربية ومؤسساتها، إلا أنني أعتقد أن الجامعة العربية تعيش أزمة هوية هي ذاتها، ولا أتردد بالقول إنه يجب ألا يقبل للعمل في الجامعة إلا من يجيد اللغة العربية إجادة تامة ويستخدمها تحدثاً وكتابة ورقمنةً.
4- أخيراً، هناك مبادرات وجهود ومؤسسات في دول الخليج وفي الوطن العربي ككل عملت وتعمل على تطوير اللغة العربية يجدر بمجلس التعاون الخليجي التنسيق فيما بين جهودها وتوظيف مخرجاتها للنهوض باللغة العربية والهوية العربية في دول المجلس والوطن العربي.