كثر الحديث والتحذيرات من حرب باردة ثانية، وخاصة في المؤتمرات الدولية على غرار الحرب الباردة الأولى التي بدأت في أواخر أربعينيات القرن الماضي، وامتدت لما يقارب 30 عاماً. وفي ظل تلك الظروف سيدفع الاقتصاد العالمي ثمنها وشعوب العالم قاطبة، وستكون العولمة هي ضحيتها الأولى، وسيجر ذلك إلى تفتيت التجارة العالمية وتدفقات رأس المال بعد أن عاشت أفضل مراحلها في تسعينيات القرن الماضي إلى حدوث الأزمة المالية عام 2007-2008؛ التي ظلت وتيرة العولمة بعدها راكدة مع تضاؤل القوى التي ساعدت في تحفيز العولمة المفرطة بشكل طبيعي، كما تشير التقديرات الأخيرة إلى انكماش بواقع 5% في حجم التجارة العالمية لعام 2023.
على مدى السنوات الخمس الماضية، اشتدت التهديدات التي تواجه التدفق الحر لرأس المال والسلع مع تزايد المخاطر الجيوسياسية. وحتى تتضح الرؤية استهدفت بعض التدابير، بما في ذلك التعريفات الجمركية أو قيود التصدير، التجارة والاستثمار بشكل مباشر. فعلى سبيل المثال فقط في عام 2022 وحده تم فرض حوالى أكثر من 2700 إجراء تقييد تجاري؛ أي ما يقرب من أربعة أضعاف العدد الذي تم فرضه في عام 2019.
القاسم المشترك بين الحرب الباردة الأولى والحرب الباردة الثانية الآن هي الولايات المتحدة الأمريكية؛ فالتنافس الأيديولوجي والاقتصادي كان بين قوتين عُظميين في الحرب الباردة الأولى؛ وهي الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، والآن الولايات المتحدة والصين.
أما الفارق الكبير بين الحرب الباردة الأولى والثانية فيكمن من ناحية الاندماج ودرجة الترابط الاقتصادي وحجم التجارة العالمي؛ فالاقتصاد العالمي اليوم أكثر تشابكاً وترابطاً عن ذي قبل، وهذا ما توضحه لغة الأرقام؛ فحجم التجارة الدولي لعام 2022 يبلغ 32 ترليون دولار مقارنة بـ95 مليار دولار خلال الحرب البارة الأولى.
ما زال العالم على بعد خطوتين من حرب باردة أخرى، وهذا ملاحظ من خلال خطوط الصدع التي بدأت تظهر مع تحول الانقسام الجغرافي الاقتصادي إلى حقيقة واقعة على نحو متزايد. وإذا زاد الانقسام، فقد نجد أنفسنا في حرب باردة جديدة. ولعل من المناسب أن نذكر أن التكاليف الاقتصادية للحرب الباردة الثانية قد تكون ضخمة، والسبب -كما أشرت سابقاً- أن العالم أصبح أكثر ترابطاً وتكاملاً، فهذه التحديات لن تستطيع دولة أو تحالف مجابهتها دون تكاتف عالمي.