الحرب العالمية الثالثة لو نشبت ستكون مختلفة نتائجها وأدواتها عن سابقتيها الحربين العالميتين الأولى والثانية، لكنها لن تختلف كثيراً عن دوافعها وأهدافها ودُعاتها ومحركاتها. فالنظام العالمي القائم والسائد حالياً امتداد تاريخي للحقبة الاستعمارية الأوروبية. فالمؤسسات الدولية القائمة حالياً هي في الحقيقة انبثقت في كنف المنتصرين، فجاءت أنظمتها متماهيةً ومنسجمةً مع مصالح تلك الدول التي استعمرت ثلاثة أرباع الكرة الأرضية، ومن هنا كان الإبقاء على الحبل السرّي الاستعماري، ومن هنا يبقى الاقتصاد الاستعماري الغربي مستمراً ومزدهراً إلى اليوم رغم الزوال المعلن للاستعمار.
لكن الظروف السياسية والاقتصادية والجيوسياسية التي يشهدها اليوم عدد من مناطق الصراع في العالم، يعيد إلى الأذهان الظروف السياسية والاقتصادية والجيوسياسية التي كانت سائدة قبل نشوب الحرب العالمية الثانية والحروب التي سبقت الحرب العالمية والتي كان ميدانها ومسرحها أوروبا بين المحورين: 1) ألمانيا، إيطاليا، النمسا، و2) فرنسا، بريطانيا، روسيا.
التيارات اليمينية تكتسح اليوم صناديق الانتخابات الأوروبية بما يعنيه ذلك من حنق على قضايا اللاجئين ورفع شعار القوميات، في الوقت نفسه تعاني الاقتصادات الأوروبية من التضخم الذي بدأ إبان جائحة كورونا واستمر مع حرب الناتو على أوكرانيا وما نتج عنها من استنزاف للاقتصادات الغربية وما تسبّب به الأمريكيون من حرمان الأسواق الأوروبية من البترول والغاز الروسيين، ما دفع الأوروبيين لشراء نفس الغاز الروسي من مصدّرين آخرين بأضعاف الأثمان، بجانب الكلفة الباهظة التي تكبّدها الشعب الأوكراني من دمار وتدمير.
فرنسا التي هي أحد أهم اللاعبين الرئيسيين في الحفاظ على الاتحاد الأوروبي والمدافعين عن وجوده، تخسر بشكل متسارع نفوذها ومصالحها في القارة السمراء، وهي الدولة المعروفة بأنها لاتزال تعتاش على الاقتصاد الاستعماري بشكل كبير خاصة في مستعمراتها السابقة في أفريقيا، بل إن فرنسا تخسر نفوذها ومصالحها في أفريقيا أمام تنامي التواجد الروسي الأمني الاقتصادي وأمام تزايد واتساع نفوذ ومصالح الصين ومشاريع التنمية الصينية في أفريقيا.
التقارب بين روسيا وكوريا الشمالية مؤخراً هو استشعار ربما لحرب عالمية ثالثة تكون أسلحة الدمار الشامل أبرز أدواتها، خاصة أن زيارة الرئيس الروسي لكوريا الشمالية أفضت إلى اتفاق إستراتيجي يشتمل على الدفاع المشترك إذا ما تعرّض أحد الطرفين للاعتداء. ربما أن هناك اتفاقات دفاع مشترك غير معلنة بين بعض القوى العالمية والتي تمليها الاستبداد والعنجهية والغطرسة الأمريكية سواء من خلال العقوبات أو الحصار أو المقاطعة والممارسات الظالمة والجائرة التي تقوم بها المؤسسات الدولية والتي تحركها وتديرها الأيادي الأمريكية والغربية في المؤسسات الدولية.
أما الحرب الغربية الإسرائيلية على غزة فقد أسقطت ورقة التوت عن صورة صادمة استيقظ عليها العالم من خلال وسائط الإعلام الاجتماعي المتحرر إلى حد ما من السردية الإعلامية الغربية والتي فرضها الإعلام الغربي والنخب السياسية الغربية على الرأي العام العالمي عبر عقود ورفض ما سواها من سرديات، فقد رأى العالم خلال الحرب الأمريكية الإسرائيلية على غزة صورة معكوسة ونقيضة تماماً للسردية الإسرائيلية التي تم إخفاؤها وترويجها عبر عقود من الزمن بأن الإسرائيليين هم ضحايا فتبيّن أنهم فاشيون ونازيون يرتكبون الإبادات الجماعية والتطهير العرقي، كما سقطت السردية الخفية التي تدعي أن إسرائيل هي الديموقراطية الوحيدة في المنطقة فتكشّفت الحقيقة عن نظام عنصري إرهابي قمعي، وهو ما أدى ربما إلى احتجاجات شعبية عارمة بدأتها الجامعات الغربية وامتدت إلى كثير من الشوارع في أغلب العواصم ومدن الدول الغربية.
الحروب العالمية لا تبدأ بإعلان حرب لكنها تتدحرج بأصحابها في أتون حرب عالمية، لكن الحرب العالمية الثالثة إذا ما نشبت فقد تكون الحرب العالمية الوحيدة التي عمل عليها وخطّط لها أصحاب المصالح الرأسمالية في الاقتصاد الاستعماري وأصحاب العقيدة الصليبية الناتوية قد يشعلون حرباً عالمية ثالثة أمام الخسائر التي يمنون بها، وأمام المنجّم الأفريقي، وأمام محكمة الجنايات الدولية، وأمام المستنقع الأوكراني، وأمام الكثافة السكانية العالمية من ذوي البشرة غير البيضاء والعيون الزرقاء وحلم المليار الذهبي وجغرافية الشرق الأوسط المشتهى تفريغها من كل ما هو عربي.