تيقن العريفة أن الرجال قاصده، وهو مقبل يتفرصع من علوّ الدار، فالتقط دلته بفناجيلها، وقال للمذّن: قم يا ديكان استقبل نفعتك اللي جيتني بها اتلى عمري، أنحن قهرنا في الصُحاح خلّ المغزّلة، فقال المذّن: تراه طيّب لا يغرك هباشته ودباشته؛ فعلّق: كلها من تحت رأسك لا ذِكرت بخير، انتخشتاه وعوّدت به علينا، كان خليتاه في عصاة بقعا، يجاود عند المكاكوة لين ينشف عظمه انتشفوا عظمك. وأضاف: تقول طيّب، فين طيّب؟ وهو يمشي ويداوس حتى خياله. وانسلّ العريفة لداخل بيته؛ والمذّن نزل من درجة الساحة وهو يردد: عوّدت به يحاوش أبوه، ويوقف عند حقه، تبغون تسترقونه انت والسّرق اللي معك.
لاح العريفة بابه، وحط أذنه على خشب البداية، ليلتقط ما يدور بينهما من حديث، فسمع زبيبان يقول بلهجته المكاوية: ايشب العريفة حقكم كل ما شافني يشرد؟ وأضاف: أكيد عامل له عملة، وجبد المذّن من كتفه، وقال: ما يخاف مني إلا العكّاف واللفّاف، وصانع القفاف، ومن خرعة المذّن صار يعيد ما قاله مؤكداً صدقه، صادق صادق يا زبيبان، ولكن العريفة مستحي منك، ما قام بواجبك! فعلّق: يا هوه هذي العينات فاتتها قسمة المذاهب، لا تعطي حق، ولا تقوم بواجب، أخصرك منّه.
عقب أدائهم صلاة العصر، والعريفة يستقيم من قعدته، غمز للفقيه، فلحقه، ولقيه معتنز فوق حجيرة مصبّر الجرين، وقال: باشكي عليك من رفيقك ديكان، جاب لنا هذا الصابة البيض بحدّه والدجاج بحدّه، ولو يحيط به 10 رجال داسهم وذرّاهم، فقال الفقيه ساخراً: تخبر يا شيخنا كعشته اللي كانت ترحى بالصيبان والقمل؟ فضحك العريفة، وقال: وإلا رعامته اللي كانت لاطية في طرف خشمه تقول «زُميّم» وهو يضحك، والفقيه باصم، فطلب منه يمرر له قصة السحابي، ثم يحبك له حبكة تغزّل به لين يحاحي، وقال: لا تنسى عندهم بلاد تجي لها محرثة دورين، وإذا انكفت الشيبة عصّبنا انت وانا مع مرته؛ لكن بعد ما توخّر الذماه اللي كما الهرش من طريقنا.
وما استاد كبير القرية إلا وذيك الصفقة في ظهره، شهق منها، ثم اعتزى «أبو مذهبة»، والتفت إلا وهو «زبيبان»، فمد يده على شنبه يسلّم فيه ويقول: تراني سد وجه الله معي فتق في بطني، قال: من المال الحرام يا حواق إرث الولايا، وبغى يشرد، فمدّ ذراعه ولزم طرف ثوبه، فانشقت كفة الثوب في يده، والعريفة ما صدّق انه فلت، وتناوش مسراب الدمون، وصوته يلعلع: علّمه يا فقيه بالسحابي.
انتبه «زبيبان» لكلام العريفة، وسأله: اش كان يقول لك عني، وبيش تعلمّني يا «فقفق»، اسم الدلع للفقيه؛ فاغتنم الفرصة ليكسب وده من جهة، وينشبه مع العريفة زيادة وهو يتفرج، فقال: إلى نشدتاني بالله، يقول: أبوك سحابي؟ فسأل: ايش يعني سحابي؟ وهذا اللي مركّي عند أمي بالبيت ايش وضعه؟ فقال: كان أبوك في الحج يوم حملت بك أمك، وشاف العريفة، ليلتها، بعد صلاة عشاء في ليلة قمراء، كما الدَّينه؛ تحوم فوق بيتكم، وانسلتت من الكُترة، وما غير تواسى السحابي جنب ملّة أمك؛ فقش حبة تمرة، وناولها العَجَمة، صائحاً، مُصّيها، ومصتها إلا وبطنها قِرتها! فعلّق: حلو كلام عريفتكم، زدتني شوق يا فقفق، ما دام أبويه جنّي، هذا الشنب ما هو على رجال لو خليت فيكم واحد صاحي.
افتك حمار العريفة من مذودها، وهبط به سوق السبت؛ ليشري له عنب من حقّ العسله، وكل ما لقي زوجة الفقيه تمخض، حلّ رباط الشكوة ومقّ اللبن بثمرته، ويقول للكهلة: ثوابك على الله يا خالة، اللبن يرخي صواميلي، ويخليني أرقد، وهي تردد بينها وبين نفسها: رقدة أهل الكهف، ولقط بسّه متوحشة، وحذف بها المذّن وهو داخل المسجد يأذن للفرض الأخير، ودفّ الباب بكتفه حتى بدأ يصيح ويستنجد.
صارت القرية تشوف خياله في الماء، وتغيّرت العادات، ولاحظ المذّن على العريفة، فسأله: ما عاد تسري تسمر عند الساحلي، وأضاف: عوّدت ترقد من مغرب، ترى ما يرقد مع المغرب إلا الديك، عشان يصبح جهمة يكاكي، فقال: صدقت يا ديكان، ما يخبر عادات الديكة إلا ديك، وزاد بضحكة: يا الرفيق بيني وبين هذا المكّاوي ظُلمة، ومن ساعة ما اشوفه يشلّني الراقف، استنكر المذّن كلامه، ونشده: بيش يخوّفك؟ فأجابه: جاني كلام أنه ينقع الزبيب، ويغمله ثم يشربه، ويختلف ويتخبّث، ما شفت عروق ايده نافرة، علّق المذّن: ما هي غريبة عليه عاش مع الحونشيّه ودربوه.
اشتى الخريف، راحت بنت المذّن على ولد الفقيه، تعشوا، وكثروا بالخير، وانتظم المعراض، وزبيبان منتشي فوق عِراق، يشرف على ميدان واسع، يتوسطه نقاعة الزير والشعار والمخيّلة، فسمع الشاعر يقول: حيّ لي صدّة بريعه مثلها لا جا ولا جرى، علّق: أول مرة يجيبها شاعر على المقراع، فعلاً ما قد جت ولا جرت «ولد الحرامي، أخذ بنت السراق، والدليلة سمسار»، فلكز العريفة الفقيه بكوعه، وقال: ما يشوفنا في عينه شيء، وأنت تتعيا كيف تقل به.
بدأوا التخطيط للتخلّص منه، فطلب العريفة من الفقيه يوصف له وصفة تهريه، وقال: هب له من خُليانك وعشبانك، أرب الله يدقه بطنه لين تندر معيانه من عفلته، فتضاحكوا، وقال المذّن: رأيي نندر به تهامة، يقولون مسقومة فيها وبا، وما يعوّد إلا لسانه لاطي في حنكه، واقترح الفقيه مرقة حبيني، وقبض على لحيته، قائلاً: هذا وجهي لتغدي به وحدة بوحدة، سأله المذّن: وين نلقى حبيني؟ قال العريفة: من رزّ السوق يمّنه، وما يصعب عليك يا ديكان أنت توذّن على غير القِبلة، والحبيني يصلّي ما يطهر.
سألهما: وكيف نسقيه المرقة، قالوا: عندك يا شيخنا، تعزمه على فردوق من فراديق الرحمن، وتقول ضيفتك، وخلّ الباقي علينا، جاء للضيفة ومعه أبوه وأمه، فاستدرجه الفقيه والمذّن عشان يتنبكون في الغُدرة، وانسرق الفقيه، وعاد بطاسة المرقة السوداء، وبرر سوادها بكثرة الفلفل الأسود، ومدّ بها وقال: تمرّق لين تتعرّق، وطلب منهم يشاركونه، قالوا سبقناك.
ترقبوا، دور، دورين، شهر، شهرين، سنة، سبع، عشر، فني العريفة، ولحقه المذّن، واقترب الفقيه من القبر، وزبيبان لك وله السلامة، والفقيه كلما تفكّر قال: يا فاتل في الأرض كفاك فتّال السما، ثم يستدرك ويقول: أظنها مرقة الحبيني، نفعته ما ضرته، واللي بغى يرثه غدا تراب وهو بينفقع، كما كيس القشر من النعمة ما يبان له رقبة.