بعد مضي 43 سنة على تأسيس مجلس التعاون لدول الخليج العربية، أعلن المجلس عن رؤيته للأمن الإقليمي منذ أسبوعين خلافاً لما دأب عليه المجلس منذ تأسيسه بالاكتفاء بما يصدره من بيانات ختامية للمجلس الأعلى عقب الاجتماعات السنوية للقادة أو تلك التي تصدر عن المجلس الوزاري لدول المجلس..
كيف يمكن قراءة البروتوكول المختلف الذي جاء من خلاله إعلان هذه الرؤية؟ وهل يحمل توقيت صدور الرؤية الخليجية أي دلالة خليجية أو إقليمية أو دولية؟ إلى أي مدى تأثرت الرؤية الخليجية بالواقعية السياسية ونضج التجربة الخليجية؟ أم أن دول المجلس أصبحت تستشعر الأمن من خلال تصفير خلافاتها البينية والعمل على المشتركات بينها وبين دول العالم؟ هل وصلت الدول الخليجية لقناعة بأن تصفير الخلافات الخليجية البينية وتحييد الخلافات الخليجية الإقليمية والإبقاء على مسافة واحدة مع القوى الدولية في مناطق صراعاتها هو البداية الصحية والطبيعية للنأي بمجلس التعاون لدول الخليج العربية عن الصراعات والمضي في الاتجاه الصحيح؟
هل أدركت دول مجلس التعاون الخليجي أن الاقتصاد وليست السياسة هي المدخل والبداية الصحيحة لوضع البنية التحتية لأي تكتل خليجي حقيقي مؤثر؟ وهل تنجح دول مجلس التعاون الخليجي بمحاكاة التجربة الأوروبية في بناء تكتل اقتصادي خليجي يعكس إمكانات دول المجلس وتطلعات قادتها وطموحات شعوبها ويؤسس لعلاقات اقتصادية ندية لهذا التكتل الخليجي مقابل التكتلات والأسواق العالمية القوية والمؤثرة؟
رغم التفاؤل والآمال التي تعلقها شعوب المنطقة على إيجاد وبلورة مشروع عربي بحجم مجلس التعاون لدول الخليج العربية، يحمل على عاتقه بلورة وتأسيس مشروع عربي نهضوي ويقوم بما تأخرت أو تقاعست عن إنجازه جامعة الدول العربية، في مواجهة مشاريع إقليمية غير عربية تتنامى وتتسع نفوذها بشكل أصبح يشكّل تهديداً وجودياً للدولة والهوية والثقافة وحتى اللغة العربية، إلا أن هناك الكثير من التحديات والصعوبات التي تكتنف هذه المرحلة.
صحيح أن المشروع الصهيوني تكبّد ويتكبّد خسائر وهزائم عميقة على يد المناضلين الفلسطينيين أصحاب الحق في الأرض والتاريخ والحضارة، ويتكبّد هزائم أخلاقية بجانب الهزائم المهنية ومعه الشريك الأمريكي والبريطاني، رغم الدعم السياسي والعسكري والشراكة القانونية لهذه الطراف مع الكيان بكل التهم له بالتطهير العرقي والإبادة الجماعية والتهجير المتعمد والمخطط له.. وصحيح كذلك أن المشروع الإيراني لم يستطع أن يتقدم بل هو غير قادر على حماية منجزاته في كثير من مواقع المناطق العربية، بجانب ما يتعرض له المشروع الإيراني في العمق والداخل الإيراني من تحديات. أما المشروع التركي فمن الواضح أنه يستمد قوته وتأثيره من ضعف وإضعاف الدول العربية المجاورة، أي أن تقويضه مرهون بقوة وتقوية دول الجوار.
لكن الرؤية الخليجية تأتي في وقت يشهد فيه العالم تحولات كبيرة وعميقة بما فيها صعود قوى عالمية مثل الصين وتشكّل تكتلات مثل البريكس، بالإضافة إلى ما يشهده العالم من بدائل للدولار كعملة عالمية وما يعنيه ذلك من تأثير على مستقبل تأثير الدور الأمريكي ونفوذه الاقتصادي، ناهيك عن حركات التحرر الجديدة التي تشهدها أفريقيا ضد الهيمنة الفرنسية على دول الساحل الإفريقية.
كلما كانت الرؤية الخليجية ذاتية ومبنية على حسابات خليجية ووفقاً للساعة الخليجية ومطبوخة على نار خليجية ووفقاً للقيم العربية الإسلامية الخليجية وتبعاً للمصالح الخليجية، ومع تصفير الخلافات الخليجية الخليجية، وتحييد السياسة أمام الاقتصاد وتفعيل مقررات القمم الخليجية والأفكار التي قدمها القادة مثل التحول من التعاون إلى الاتحاد، كان ذلك ضمانة لنجاح هذه الرؤية وفرصة كبيرة لترجمتها إلى مستهدفات وبرامج على المدى المتوسط والبعيد، وتقديم مشروع عربي واضح وحقيقي يحفظ الحقوق والهوية والثقافة والمصالح العربية في مواجهة المشروعات الإقليمية المدعومة ومخاطر تناميها.