انتهت حقبة الرئيس السوداني المعزول عمر البشير التي كانت لطرف سوداني واحد بينما يعيش بقية السودانيين على هوامش التاريخ، كانت السودان دولة لكنها ليست للجميع، وكانت مستقرة في الظاهر لكن في الباطن تغلي، وهذا ما ظهر في الإطاحة بحكمه وطي صفحة بقايا الإخوان.
دخل السودان في مرحلة تقرير المصير وأيضاً في معركة الاستقرار الطويلة، ولكنه ظل بعيداً عن الاستقرار، ومع ذلك كان المشهد يطمئن بأن الصراعات السياسية لم تبلغ لغة الدم.
لم يشهد السودان استقراراً، على الرغم من محاولات الأحزاب السياسية والتيارات المدنية العمل جنباً إلى جنب للوصول إلى السودان المنشود، وفي الوقت نفسه كان الغليان يتصاعد من الداخل دون أن تدرك الأطراف السياسية وخصوصاً الطبقة الحاكمة أن هذا الغليان وصل إلى المستوى الشعبي والعسكري.
وعلى الرغم من وجود مجلس السيادة الذي تولى حكم البلاد بالتشارك بين الجنرال عبدالفتاح البرهان والجنرال محمد حمدان دقلو (حميدتي)، لكن الأمر لم يكن وليد الثقة على الإطلاق، وظلت النوايا تحت الطاولة إلى أن خرجت الأمور عن السيطرة؛ نتيجة الخلافات الدفينة بين الرجلين، إذ إن كل طرف يريد السودان على طريقته، وهذا ما نتج عنه صدام مسلح دامٍ تحوّل إلى حرب طويلة الأمد.
المشكلة أنه رغم كل ما جرى في البلاد ما زالت الأطراف على مواقفها، من جهة يرى حميدتي أن ما جرى عام 2021 بإزالة الحكومة المشتركة بين العسكريين والمدنيين، كان خطأً وحاول تقديم نفسه وقوات الدعم السريع على أنهما يقفان إلى جانب الشعب ضد النخبة الحاكمة في الخرطوم، واعتبر أن الإطاحة بحكومة عبدالله حمدوك هي المقدمة لما وصلت إليه البلاد قبل اندلاع المواجهات الأخيرة.
تبريرات حميدتي لما جرى في السودان بعد 15 أبريل، أن البلاد لم تشهد الاستقرار، وأن السودان سيبقى أسير التجاذبات، وبالتالي لا بد من تصحيح المسار عبر البوابة العسكرية.
أما البرهان فيرى أن الجيش سيسلم السلطة بشكل كامل، ولكن فقط لحكومة منتخبة، ففي 9 أبريل 2023 قبل اندلاع الموجهات بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، قال البرهان خلال مأدبة إفطار بحضور القوى السياسية والمدنية «تأخر الاتفاق السياسي سببه الخلافات مع قوات الدعم السريع في بعض مسائل الإصلاح الأمني والعسكري»، وهذا يعتبر أصل الخلاف أيضاً في الحالة السودانية، إذ اختلف حميدتي بعد الموافقة على دمج قواته بالجيش السوداني على قيادة هذه القوات، واشترط الجيش أن تكون هذه القوات تحت تصرفه فقط، وعلى ما يبدو أن حميدتي شعر أنه خارج ميزان القوى. وكانت محاولة البرهان حثيثة لتسليم السلطة إلى المدنيين، وذات مرة اقترح تنحي الجميع من منصبه السياسي والعسكري والانتقال إلى سودان جديد.
المفارقة أن كلا الطرفين يكرر الحديث ذاته بضرورة تسليم السلطة للمدنيين، وتصحيح المسار السياسي في السودان، ورغم كل هذه المزاعم وقعت البلاد في شرك الحرب الأهلية، وهذه المرة برئاسة جنرالين، إنها حرب أهلية من نوع جديد.
وبعد عام على هذه الحرب المجنونة، ما زال السودان تحت سطوة الحرب والخصومة؛ التي تسربت إلى أبناء السودان وهذا أخطر مافي الأمر؛ أن تنتقل الخصومات السياسية إلى الملعب الأهلي، لكن السؤال: هل يمكن إنقاذ السودان؟
الجواب: بالطبع ما دامت المقارنة بين الحرب والسلام مهما كان سيئاً، لكن الأفضلية للسلام الذي يعيد السودانيين إلى بلادهم، ولعل هذا الخيار هو خيار الشجعان الذي طُرح في مؤتمر باريس أخيراً.