بين قديم يتوارى وجديد يولد، مر العالم بمحطات وتحولات كبيرة عبر التاريخ، كانت جلها محل دراسة وقراءة للجيل الصاعد، لكن ما نعيشه في الوقت الراهن من صراع بين الشرق والغرب وتحرك قلب العالم نحو الكتلة الآسيوية، يحيلنا إلى عديد من التساؤلات، في المقدمة منها ما يرتبط بانهيار الغرب؟، وما إن كان يقابله صعود الشرق؟ ودور أو مصير المنطقة العربية المتداخلة بشكل كبير شرقاً وغرباً، والتي باتت المسرح الذي يتشكل على أرضه المشهد الجديد، بعد أن عانت طويلاً من الاستعمار وما تلاه من محاولات تفتيت أدت للمشهد الراهن في العديد من الدول العربية، كما هو الحال في العديد من دول القارة الأفريقية التي ظلت فقيرة بعيدة عن الاستقرار.
الحديث عن «الأفول الغربي» يتطلب دراسة واعية للحاضر، الذي يكمن استيعابه في قراءة متأنية للأمس، وما يتصل بالواقع الذي نشهد فيه «انهياراً أو انحساراً أو تراجعاً» الذي يحيلنا بالضرورة لاستعراض عديد الرؤى والقراءات التي وردت في كتب العديد من الفلاسفة والكتاب حول العالم، والتي يمكننا أن نقرأ من خلالها بعض ملامح هذا التحول وارتداداته على المنطقة العربية، وأفريقيا.
لفترة طويلة ظلت رؤى الفلاسفة حول «انهيار الغرب» محل جدل ونقاش وتشاؤم وصدمة وتشكيك، خاصة أن التقدم والتكنولوجيا والطفرة الكبيرة التي حققها الغرب من تقدم، جعلت الطبقة الحاكمة تتمادى في بسط هيمنتها بطرق شتى، ظناً بأن قيادتها للعالم بعد كل ما تحقق باقية.
ضمن الذين ذهبوا إلى حتمية غروب شمس الغرب، الروائي الروسي فيودور دوستويفسكي (1821- 1881) الذي أشار إلى أن الحضارة الغربية تتجه نحو انهيار مأساوي.
أيضاً ما تضمنه كتاب «أمريكا بين عصرين» الصادر عام 1970م، للفيلسوف الأمريكي، زبيجنيو بريجنسكي، (28 مارس 1928 - 26 مايو 2017) حول أفول أمريكا كدولة عظمى وبقائها ضمن الدول الكبرى، مشيراً إلى أن احتمالية وقوع ذلك مع انتهاء العقد الثاني أو الثالث الثالث من القرن الحادي والعشرين، وهو ما تؤكده المؤشرات الحالية.
ولعل ما ورد في دراسة أرنولد توينبي، المولود في لندن عام 1889، والتي تتكون من 12 جزءاً تحت اسم (A Study of History)، والذي اعتبر أن الحضارة الغربية في الصورة الأوروبية تعيش أزمة عميقة ولم تتعلم الدرس من سقوط روما، عام 476 عندما انتزع زعيم المرتزقة أودوفاسر من قبيلة البدو الألمان الإمبراطورية الغربية لنفسه، وخلع الإمبراطور الآخر وأحاله إلى التقاعد، وهو مشهد قابل للتكرار خلال الفترات المقبلة في أوروبا، بعد أن تعززت عوامل إضعافها داخلياً وخارجياً بشكل تدريجي.
ضمن الكتب الهامة أيضاً «نشوء وسقوط القوى العظمى: التغير الاقتصادي والنزاع العسكري من 1500 إلى 2000» للمؤرخ البريطاني بول كينيدي (المولود في عام 1945)، وهو واحد من الذين تحدثوا مبكراً عن «أفول القوى الغربية»، إذ صدر كتابه في عام 1987.
وربما من المهم أيضاً الإشارة إلى الفيلسوف الألماني، أوزوالد شبنغلر، الذي جاء في كتابه «انحسار الغرب» أن الحضارات مثل الكائنات الحية تولد وتنضج وتزدهر ثم تموت، كما تحدث أيضاً عن صعود آسيا، وكان هذا الحديث مبكراً في الفترة ما بين، 1918 و1922.
في المشهد الراهن تؤشر التحولات بأن تراجع الغرب يقابله صعود للكتلة الآسيوية وخاصة الصين والهند وروسيا، في ظل ملامح لم تتبلور لرؤى أو إستراتيجيات جادة في المنطقة العربية وشمال أفريقيا، والتي استقرت فيها القيادة المبدعة منذ بداية التاريخ وحتى نهاية القرن الرابع عشر، وتجلت في مصر والصين والهند.
آنياً، يمكن اعتبار الأزمة الأوكرانية، بمثابة الصخرة الكبيرة التي تدحرجت مخلفة فوضى في شتى الاتجاهات، كما أصبحت معها المنطقة العربية في مركز المشهد، بعد أن اتضحت الرؤية بشكل كامل للعوام أن ما فعله الغرب منذ دعمه احتلال الكويت ودخول العراق، وسوريا في 2011، وما أسس له منذ البداية بـ«وعد بلفور» لم يكن مصادفة، أو نزعات فردية أو من أجل الديمقراطية كما زعم مراراً، بل كان من أجل الإبقاء على الهيمنة، وإضعاف الكتلة العربية، لعدم تأثيرها في الصراع بين الشرق والغرب.
في عبارة مجملة يقول المفكر المغربي حسن أوريد في كتابه «أفول الغرب» إن «الأسوأ ما سيأتي إن لم يستوعب العالم العربي التحول الجاري في العالم»، وهو ما يطرح تساؤلات هامة بشأن الكتلة العربية، ودورها في المرحلة الراهنة، وما إن كانت ستكتفي بدور المركز الذي يدور على أرضه هذا التحول من الغرب للشرق، وحينها ستكون المنطقة أكثر ضعفاً ووهناً، يمكن أن تغيبها لعقود طويلة مقبلة، أو أنها ستستعيد زمام ريادتها كما كانت قبل قرون طويلة.
قد يكون من الخطأ أن انحسار الغرب أو تراجع هيمنته يمكن أن يمر دون أحداث كبرى، منها ما يحدث في أوكرانيا وغزة، وما قد يتبعها من أحداث أخرى، في ظل دعوات الانفصال التي تدفع نحو بعض الدول الغربية بشكل مباشر أو غير مباشر، وعودة الحركات الإرهابية للمشهد بشكل قوي «أمر وارد»، كذلك تقليب الداخل في بعض الدول التي المتداخلة بشكل قوي ثقافياً واقتصادياً وسياسياً مع الغرب، وفي ظل نخبة تأسست داخل المدارس الغربية ولم تدرك بعد خطورة القادم، وأهمية وجود كتلة عربية، لا نزعة عربية فردية، فلا يمكن لدولة أو اثنتين أو ثلاث مجاراة ما يحدث دون الكتلة مجتمعة.
ما دون ذلك فإن الانقسام بين المعسكرين الغربي الذي سيظل يمثل «قوة» لفترة أيضاً، دون الهيمنة، والشرقي الذي سيعمل بكل إمكانياته أيضاً لإضعاف الغرب وبالتالي إضعاف الموالين له أو المتحالفين معه، وهو نفس النهج الغربي في المقابل، بما يؤدي إلى المزيد من الضعف الذي قد يتبعه زوال مفهوم «الدولة» في بعض الدول الضعيفة، وتقسيم المعدة لذلك سلفاً، وإشعال الصراعات مع دول أو في داخلها عبر «إسرائيل» القاعدة الغربية الأكبر في المنطقة.
في المجمل يمكن الاستناد إلى ثلاثة عوامل تساعد في مدى سرعة وتيرة «انهيار الغرب».
العامل الأول والذي يتمثل في قوة التنسيق والتقارب بين الكتلة الآسيوية، خاصة على المستوى الاقتصادي، أولاً، والمستوى الأمني ثانياً، في ظل العلاقة بين بعض الدول الأوروبية والجماعات الأيديولوجية التي استخدمت طويلاً في المنطقة العربية.
العامل الثاني يتمثل في «الكتلة العربية»، وحتى الآن تبدو بعيدة عن دور فاصل في هذا التحول حتى لصالحها، نظراً للتباينات وتشابك المصالح الاقتصادية بشكل معقد، لكنها ستظل داخل دائرة هذا الصراع لنفس الأسباب، وربما أن الموقف الغربي من القضية الفلسطينية وما يحدث في غزة وما سبقه من ردة فعل على موقف العرب من الأزمة الأوكرانية، كانت إشارات كافية بضرورة توازن العلاقات وتنويعها في أقل تقدير في الوقت الراهن.
أما العامل الثالث يتعلق بالداخل في الغرب، وهو يتضمن العديد من الجوانب منها ما أسّس له الغرب الذي أقام حضارته على أنقاض حضارات أخرى، وممارسات غير أخلاقية، واختزال الإنسان في بعده المادي، وتحويل البشر إلى آلات، وتراجع الجانب الروحي والثقافي، الذي برزت معه جماعات متطرفاً في العديد من هذه الدول.
بالإضافة إلى ذلك فإن الأعداد المهولة للمهاجرين غير الشرعيين والجاليات العربية والأفريقية هناك، وهو ما ذهب إليه المؤرخ «أرنولد توينبي» في موسوعته «دراسة التاريخ»، التي أشار فيها إلى أن الحضارة الغربية كانت تتعرض لهجمات البربر من خارجها، وكذلك سقوط روما عام 476 عندما انتزع زعيم المرتزقة أودوفاسر من قبيلة البدو الألمان الإمبراطورية الغربية لنفسه، وهو المشهد الذي يمثله مئات الآلاف من المهاجرين إلى هذه الدول، قد تدفعهم محاولات إعادتهم أو الاضطرابات في أكثر من منطقة إلى تحركات غير مسبوقة.
في الخلاصة يمكن القول إن الرؤى العربية الحالية القائمة على «توازن العلاقات» قد تكون غير كافية، وباتت مطالبة للعمل من أجل أن تتبوأ مكانة فاعلة في المشهد القادم، حتى لا تتحول من شراكة غير متكافئة مع الغرب، إلى نفس المشهد مع الشرق.