من صفاتنا البشرية منذ العهد الأبدي إلى العهد السرمدي؛ البحث دوماً عن الحقيقة في كل أمور الحياة وما بعدها.. نتعمق بحثاً عن حقيقة خلق البشر والكائنات الأخرى وتركيبتها المعقدة.. نبحث بين روح لا يمكن رؤيتها وقودها المشاعر، وأعضاء تضمحل مع مرور الوقت وتتأثر بشكل واضح بكل ما يلمس كبرياءنا وإحساسنا.
أقول والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله، هو حسبي ونعم الوكيل: «الجهل أحياناً نعمة، والتغافل موهبة الأذكياء».. هذا الكلام ليس مخالفة للنص القرآني: (يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف).. ولا اعتراضاً على وصف (الجاهل) في قول حبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم: «الجاهل يظلم من خالطه، ويعتدي على من هو دونه، ويتطاول على من هو فوقه، ويتكلم بغير تمييز، وإن رأى كريمة أعرض عنها، وإن عرضت فتنة أردته وتهور فيها».. ولا تحدياً لقول الخليفة الراشد علي بن أبي طالب، رضي الله عنه: «قمة الفقر هو الجهل»، ولا نكاية ببيت المتنبي «ذو العقل يشقى في النعيم بعقله، وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم».. ولا رفضاً لمضمون الفليسوف سقراط السردي «تجرع كأس السم» ويقصد به الاستنارة بالعلم.
جزء مما اقصده؛ ما نُسب إلى الخليفة الراشد الفاروق عمر بن الخطاب: «أميتوا الباطل بالسكوت عنه»، والذي أُخِذَ من مفهوم كلامه، رضي الله عنه: «إن لله عباداً يُميتون الباطل بهجره، ويحيون الحق بذكره».. فالبُعد والتجاهل والإعراض والسكوت عن معرفة ما قد يؤذينا في مشاعرنا ومعتقداتنا وتعاملاتنا الإنسانية؛ هي تلك النعمة التي أقصدها.
إذن؛ من يُعرِض عن البحث في كل حقيقة ويهجرها لدرجة عدم ذكرها في حديث النفس للنفس أو من باب الفضفضة مع من حوله؛ سيدخل ضمن قائمة أصحاب النفس الطيبة اللوامة.. فتذكُّر كل حقيقة وذكرها ومحاولة معرفتها؛ إحياء للأذى في دواخلنا، سنجني منها الهمّ والسقم والانكسار، وستزيد شيخوخة أجسادنا وأرواحنا وأفكارنا.. وربما تطبع على جوارح قلوبنا الغدر والخيانة والخذلان.
أخيراً:
(التغافل) فن لكسب مودة العقلاء وتجنب أذية الجهلاء، وأختم بما ذُكر في أكثر من مقام؛ في قوله تعالى: (عرَّف بعضه وأعرض عن بعض).. ومن أقوال السلف الصالح؛ الإمام أحمد بن حنبل «تسعة أعشار حسن الخلق التغافل»، والإمام الشافعي «الكيّس العاقل هو الفَطن المتغافل»، والحسن البصري «ما زال التغافل من فعل الكرام».. فاعتبروا يا أولي الألباب.