في زمن الفوضى الفكرية الناتجة عن وسائل التواصل الاجتماعي، اختلت التعريفات وتداخلت الدوائر الوصفية للمثقف والمفكر والفيلسوف، حتى جاوز الحق أهله وأقام الدخيل زيفه. أزعم بأن التراتبية الفكرية كمَثَلِ التراتبية الأكاديمية، يستلزم أن تميز وتحترم -وإن كان بحدود مرنة نسبياًـ وذلك في سبيل تنقيح الفكرة وتأصيل المعلومة وبناء المفهوم حسب المنهاج العلمي، مما يحفظ جسد المجتمع من نخر الخرافات والأساطير والزائف من العلوم (Pseudoscience).
لا يملك المثقف مخزوناً معلوماتياً ضخمًا فحسب، بل يمتلك الانفتاح الفكري والمهارة التحليلية للتمحيص والشك وتقصي الحقيقة مستخدماً الأدوات العلمية في البحث. يقوم المثقف بدور مفصلي في نشر الوعي المعرفي وغرس الفكر النقدي في المجتمع مستخدماً الأدوات المتاحة من كتابة وحوار ومعارض وندوات وغيرها. الخيال هو ما يفصل المفكر عن المثقف، ما يتيح له توسيع المدارك والخروج عن النسق إما إتياناً بالجديد المبتكر أو دحضاً للقديم المستوطن في العقول. إذا كان التحليل مَلَكَة المثقف فإن الابتكار هو مَلَكَة المفكر، وإذا كان الجواب عطاء المثقف فإن السؤال هو عطاء المفكر. يجدد المفكر للمجتمع وعيه ويغير مفاهيمه للسير به في مستقبل مختلف. أما الفيلسوف فهو عملة نادرة تسمو على الحدود الضيقة للمجتمعات والدول وتحتاجها الإنسانية جمعاء. هو ذاك المهموم بمستقبل الأرض ودوائر التاريخ وأسئلة الوجود. هو من له القدرة على الرؤية الشاملة لمسيرة الإنسان وتقلب الأزمان من بعد الفهم العميق لتداخل العلوم وغرائز الأنام، ثم يخط من كل ذلك معالم جديدة للإنسانية تتحدى كل ما سبق من معانٍ للحياة وطرق للعيش والتفاعل البشري. مَلَكَة الفيلسوف هي الحكمة وميزته هي الشمولية. فهو غزير المعرفة كما المثقف وواسع الخيال كما المفكر، بيد أن له القدرة على ربط العلوم ببعضها وإخضاع ذلك لحكمة يمتلكها ثم رسم معالم جديدة في فهم طبيعة الكون والإنسان والحياة. هو مفكر يتعدى ابتكاره حدود التخصصات والعلوم وتسمو همومه عن فروقات البشر.
عدم احترام هذه الدوائر الوصفية يؤدي إلى فوضى فكرية وضوضاء إفتائية تحرّف المعلومة وتلوي الفكرة وتُضيّع الحقيقة. أتمنى ألا يفهم كلامي هذا على أنه دعوة لاحتكار الثقافة ومصادرة المعلومة، بل هو أمل بنسيج ثقافي صحي تقوم فيه آليات لتنقيح الفكر من الشوائب ونشر وسائل الحصول على المعلومة الصحيحة في المجتمع وأهمها زرع العقل النقدي عند الفرد. أغلب من في الفضاء المعلوماتي حالياً هم فئات خارج التعريفات آنفة الذكر، فهناك ناقل المعلومة -وهم كثر- وهناك المدعي والمهرطق وهناك الكيدي والمدبر. يغيب خطر هؤلاء على المجتمع عند فهم طبيعة عملهم وحدود طرحهم ومحدودية نتاجهم. تبيان تلك الحقيقة هو مسؤولية النخبة آنفة الذكر من مثقف ومفكر وفيلسوف، والتي من صميم واجبها الارتقاء المعرفي بالمجتمع وحمايته من زائف العلوم.