إن التجربة الروسية تجربة تستحق الدراسة والتعلم منها. هذه التجربة فيها كثير من التشابه مع ما يحدث في منطقتنا. القصة تبدأ عندما انقلب الحلفاء في الحرب العالمية الثانية إلى أعداء متنافسين على قيادة العالم التي كان الاتحاد السوفيتي يرفض نزعة الهيمنة الأمريكية على العالم، والتصعيد الأمريكي لسباق التسلح وتحول صراع الأفكار إلى صراع عسكري، في محاولة لتقويض التوازن العسكري الإستراتيجي القائم. وقد نجحت الولايات المتحدة الأمريكية في إزاحة السوفيت وإلى تفكيك الاتحاد السوفيتي والقضاء عليه كقوة عالمية عظمى تنازع أمريكا قيادة العالم. رغم امتلاك الاتحاد السوفيتي السابق إحدى أعظم ترسانتين للأسلحة التقليدية، فضلاً عن الأسلحة النووية وغيرها من أسلحة الدمار الشامل، كما نجحت الآلة الإعلامية الغربية في كسب الحرب الإعلامية ونجحت في شيطنة الاتحاد السوفيتي وأفكاره وقيمه الإنسانية وأهدافه لحرية الشعوب وحماية مصالحها. وفعلاً في مساء 26 ديسمبر 1991، تم إنزال العلم الأحمر للاتحاد السوفيتي عن مبنى الكرملين للمرة الأخيرة، ورفع بدلاً منه علم جمهورية روسيا الاتحادية. ووقع النصيب الأكبر من آثار انهيار الاتحاد السوفيتي على جمهورية روسيا الاتحادية التي كانت قائدة القوة العظمى وقلبها النابض.
عندما بدأت روسيا الاتحادية استعادة بعض من قواها على خلاف ما توقع الغرب من تفككها كأثر من آثار تفكك الاتحاد السوفيتي. بدا رعب الغرب جلياً من ذلك فقد كانوا يطمعون في انهيار روسيا الاتحادية ومن ثم الحصول على مواردها وعلمائها ومفكريها فور تفكك روسيا. وقد اختلفت سياسة واشنطن بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، حيث كانت واشنطن حذرة ودقيقة في إدارة العالم بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية لأنه كانت هناك قوة دولية خرجت معها منتصرة، ومن شأنها أن تضع حداً لأي تجاوزات للولايات المتحدة ومن معها من دول الغرب. تميزت سياسة الدول الغربية وعلى رأسها أمريكا في ما بعد انتهاء الحرب الباردة بقدرتها على فعل كل شيء مهما كان منافياً للقوانين والشرائع والضوابط التي تحكم العلاقات الدولية ومعادياً للأخلاق والسلوكيات التي تحكم العلاقات الإنسانية كل ذلك في سبيل تحقيق مصالحها وتنفيذ مشاريعها بكافة أشكالها. مستندة إلى مبدأ إن وجدت القوة فلا داعي للعقل.
استوعبت روسيا الاتحادية دروس الماضي فركزت على الاقتصاد واهتمت بالزراعة وخاصة بعد الحظر الغربي، لأن الغرب أول شيء يسعون إليه هو محاصرة خصومهم زراعياً واقتصادياً وعسكرياً. كما اهتمت روسيا بالصناعة والإعلام والمال والعلاقات الدولية والتحالفات. ولم تنفع تحذيرات الرئيس بوتين وما وجهه في خطابه أمام مؤتمر ميونيخ في العاشر من فبراير 2007 من انتقادات شديدة إلى الغرب، وأكد أن نموذج أحادي القطب لم يعد ممكناً في العالم المعاصر. وحّمل بوتين في خطابه الدول الغربية وفي مقدمتها الولايات المتحدة المسؤولية عن محاولة فرض معايير خاصة بها على دول أخرى، مشدداً على ضرورة أن يكون ميثاق الأمم المتحدة الآلية الوحيدة لتبني قرارات بشأن تفويض استخدام قوة عسكرية. وحذر الرئيس من استمرار تمدد حلف الناتو صوب حدود روسيا، على الرغم من الوعود التي قدمها الحلف سابقاً إلى موسكو في أوائل التسعينيات. غير أن الغرب لم يستمع له. فقد كان الغرب يجهز نفسه على الإجهاز على روسيا اقتصادياً وتركيعها. غير أن روسيا كانت قد استعدت لذلك من كافة الجوانب.
منطقتنا والعالم الإسلامي مطالبون أن يستفيدوا من التجربة الروسية والاستعداد للوقوف في وجه الهيمنة الغربية والحذر من أسلوب المراوغة والمهادنة التي يتبعونها. الغرب لا يعرف غير لغة القوة والمصالح. وسياسته تقوم على محاربة الآخر اقتصادياً وعسكرياً ومحاصرته وبناء تحالفات بهدف التضييق على كل من يهدف إلى أن يكون مالكاً لقراره.