السؤال الذي يطرح نفسه: هل عاد الغرب إلى أصوله الفكرية وتخلى عن الميتافيزيقا وأعاد إلى المادة احترامها؟ فقد كان الفكر الغربي وثني الهوى ومعتقداته ومفاهيمه، ثم جرت تحولات طرأت عليه وعلى المعتقدات الوثنية والطقوس والأساطير التي نشأت في اليونان القديمة في هيئة دين العامة المُفضل وممارسات الطوائف، التي كانت في معظمها متشابهة بشكل كبير، وذلك باعتناق الدين المسيحي الذي تمّت مواءمته مع بعض ما كان سائداً من مفاهيم ومعتقدات في اليونان والإغريق القديمة. لهذا أثرت الميثولوجيا الإغريقية أو علم الأساطير تأثيراً كبيراً على ثقافة وفنون وآداب الحضارة الغربية، وتبقى جزء من التراث الغربي. ما زال الكثير من الشعراء والفنانين يستلهمون من الميثولوجيا الإغريقية.
إن عصر التنوير وما بعده في واقعه هو عودة أو رجوع عن الميتافيزيقا أو الدين إلى المادة، تقول الدكتورة فطوم موقاري:
«إن الفكر الغربي هو حصيلة الصراع الذي دار بين المفكرين الأوروبيين والكنيسة لوقت طويل، هذا الفكر جمع في طيات أفكاره الروح الإغريقية الوثنية والفكر الروماني القديم والفكر اليهودي والعقائد الوثنية في الديانة النصرانية التي تنطلق من الإلحاد (الإيمان بعقيدة التثليث والخطيئة والنظريات الوضعية) حيث تم إلغاء دور الخالق وإله الطبيعة وجعل من الإنسان مركز الكون». وكما يقول المفكر النمساوي المسلم محمد أسد «الحضارة الغربية لا تجحد الله في شدة وصراحة، ولكن ليس في نظامها الفكري موضع لله، ولا تعرف له فائدة، ولا تشعر بحاجة إليه». يستحسن أن نشير إلى منظور الفيلسوف والمفكر مالك بن نبي للحضارة الذي يرتكز على نظرية الدورة الحضارية حيث تشكّل المدخل الرئيسي لنقد الحضارة الغربية، وقد تحدث عن الاستعمار وأشكاله، والقابلية للاستعمار، ورأى أن الاستعمار في تلك الحضارة الغربية يعود إلى جذورها الرومانية، فالروح القيصرية كانت تنتقص قيمة الإنسان الخاضع للاستعمار، كما انتقد القابلية للاستعمار التي تخلقها الحضارة الغربية في البلاد المُحتلة، وما يترتب عليها من فوضى اجتماعية ووهن ثقافي، بل تطرفت الحضارة الغربية لتنتج معارف تشرعن الهيمنة والاستعمار والاستغلال. ويجدر بنا أن ننوه إلى «أن مفهوم النقد الحضاري لا يعني اتخاذ موقف عدائي من الحضارة الغربية، ولكن يعني في الأساس عدم تقبل ما تطرحه الحضارة الغربية دون نقاش وجدل، نظراً لاختلاف السياقات التي نشأت فيها الأفكار والحلول الغربية، عن السياقات والمشكلات في الواقع العربي».
العالم الإسلامي في حقيقته معلق بين مفاهيمه ومعتقداته ونظرته الميتافيزيقية وبين الفكر الغربي الذي ينجذب إليه المسلمون وإلى إنجازاته ومادته وعلومه والتطور الذي حققه. المشكلة التي يعاني منها الفكر الإسلامي أنه يعيش تجربة غير تجربته وفكراً غير فكره. لهذا نادى القلة من أهل الفكر والفلسفة المسلمين إلى أصولية حديثة وإلى ما ذهب إليه الدكتور عبدالوهاب المسيري نحو حداثة إنسانية جديدة.
إن الباحث في حال العالم الإسلامي يجد بكل واقعية وأمانة اختلال توازن في عالمنا نتيجة هيمنة الثقافة والحضارة الغربية، ومن المعلوم أن هناك ارتباطاً بين الثقافة والحضارة، «فنحن لا نتلقى الثقافة ولكن نتنفسها ونتمثلها في حياتنا، فالثقافة ذات بُعد نفسي واجتماعي وتاريخي، فهي الجو العام الذي يطبع أسلوب حياة مجتمع ما، وطبيعة سلوك أفراده بطابع خاص يختلف عن الآخرين، وهي تساعد في قيام الحضارة، أما الحضارة فهي مركب اجتماعي يشتمل على ثلاثة عناصر، هي: الإنسان والتراب والزمان، ومن ثم فالحضارة لها جانب مادي وآخر معنوي».
العالم الإسلامي في أزمة فكرية وثقافية وحضارية وجودية. ورغم ذلك نجد معوقات كثيرة تحارب وتمنع أي تغيير أو تطوير، وبالرغم أن الاستعمار الغربي خرج كقوة احتلال من عالمنا الإسلامي إلا أنه بقي كقوة فكر وثقافة وحضارة متواجد بقوة في عالمنا. لن ننهض بفكر سلفي يأخذنا إلى الماضي الذي لا مكان له في عالمنا الحديث وآلياته. ولن ننهض بتبني المفاهيم الغربية، بل سنكون مثل المسخ المشوه الذي تحول من صورة قبيحة متخلفة إلى صورة أقبح. لن نخرج من أزمتنا بثقافة من مخلفات السبات العميق الذي عاشته الأمة للعديد من قرون الظلام والاستعمار.
الحل للخروج من الأزمة الوجودية أن تتبنى الدول الإسلامية خارطة طريق تنقلنا من محطة التبعية إلى الرائدة والتميّز والقيادة.