في عام 1991، أعلن العراق استسلامه إثر هزيمته في حرب تحرير الكويت، نعم أخطأ صدام في تقدير قراره، بل أجرم في حق أمته العراقية ومحيطه وجيرانه، لكنه تحمَّل تبعات قراراه بكل شجاعة، وأقر بهزيمته، وذهب وزير دفاعه لتوقيع (اتفاقية صفوان) الشهيرة، قبِل صدام لأنه حاكم وجد أن الإبقاء على العراق أهم من الإبقاء على قيادات حزب البعث.
سيذكر التاريخ أن صدام وطاقمه وبكل تصرفاتهم وعدم انضباطهم السياسي، يبقون مع شعبهم أحكم من التيارات الإسلاموية المتطرفة (الشيعية والسنية) التي ترى موت الأبرياء حياة لها، وتقتات على مصيرهم ومستقبلهم وتقايض بهم، ولا تعدهم إلا جزءاً من لعبتها في السياسة والبحث عن كرسي الحكم، أو «المقاومة» كما يحلو لها أن تسميها.
صدام لم يكن الأول، فاليابانيون الذين فجروا (بيرل هاربر)، ولم يقدّروا بواقعية حجم ما فعلوه، وتلقوا قنبلة نووية عقاباً على ذلك، استسلموا أيضاً.
نعم تستطيع مهما كنت -فرداً أو تنظيماً أو دولةً- القيام بعمل جنوني وغير مسبوق، وتقتحم أي منشأة، وتقتل من تشاء من المدنيين العُزَّل، لكن المهم أن تستطيع التحكم في نتائج ما فعلت، ولا تنتظر من الآخرين أن يدفعوا قيمة فواتيرك، وعندها تصيح في الزاوية تتهمهم بالتخلي عنك.
سيصفق لك العوام والحزبيون كما فعل البعثيون مع صدام، و(الكما كازي) مع امبراطور اليابان، ويسار لبنان ومسيحيوه المتطرفون مع حسن نصرالله 2006، لكنهم سيلومونك بعدها بأسبوع، وسيقولون من فوَّضك ومن سمح لك أن تأخذنا معك إلى الهاوية.
حُكم الناس يحتاج إلى عقل رشيد يستطيع تقدير مآلات الحروب ويجعلها آخر الحلول، يعرف متى يبدأ حرباً ومتى يوقفها وكيف يتعامل معها إنسانياً. ما فعلته الفصائل الفلسطينية في غزة أخذ المنطقة كلها معها لحافة الهاوية، لكن الفرق بينها وبين إمبراطور اليابان وقادة جيش المحور الألماني وصدام واليابانيين، أنهم كانوا شجعاناً، صحيح أنهم ذاقوا مرارة الهزيمة، لكنهم وجدوا أن الأوطان أهم، والإبقاء على حياة مواطنيهم أكثر أهمية.
التنظيمات والفصائل تستطيع القيام بعمليات صوتية تدوم لساعات، لكنها تثبت دائماً فشلها في إدارة حروب طويلة، فهي لم تعِ أن خيوط اللعبة تعقدت وانفلتت، وأن الزمان لم يعد زمانها، أما مراهنتها على التعاطف الدولي والضغط الشعبي فقد تلاشت أو انحسرت على أقل تقدير بعدما أحرقت خطوط الرجعة تماماً.
الغرور الذي يلازم التنظيمات؛ مثل حماس وحزب الله وداعش والقاعدة وغيرها، جعلها تظن أنها وكيلة الله في الأرض تتحكم في مصير البشر وتقرر حياتهم وموتهم بدلاً عنهم، فقط لأنهم ادّعوا أنهم إسلاميون دون عمل، دون أفعال تدعم ذلك، دون أخلاق تردعهم، دون شريعة تلزمهم بحقن الدماء وتقديم الأولويات والحرب تحت راية واحدة، وتقدير المصالح العليا للأمة.
الأسئلة الكبيرة التي لا تزال تستوطن هذه البقعة من العالم: هل انتصر أسامة بن لادن بعد تفجيرات نيويورك؟ هل انتصر البغدادي في الموصل؟ هل انتصر الإرهابيون في الأقصر المصرية؟ كلهم لم ينتصروا، كل ما فعلوه أنهم وثقوا بالصوت والصورة تفاصيل غزواتهم في الساعات الأولى ثم دفعوا الثمن غالياً لسنوات طويلة تالية.
اليوم يبدو الشعب الغزاوي محطماً مدمراً؛ بسبب حرب أخذ قرارها الزعيم «المتأسلم» من جناحه الفخم خارج القطاع، مستمتعاً بهتاف الجماهير له ولأبي عبيدة، وهو في عز نشوته لم يتذكر أن الجماهير العربية التي هتفت في شوارع المدن والعواصم في هزائم ( 48، و56، و67، و82.. إلخ)، وبعد أن ذهبت النشوة وجاءت الفكرة هي من لعنت الزعيم الأوحد نهاية الأمر.