مضى حين من الدهر كانت فيه معظم الجهات، إن لم يكن جميعها، التي تقدم الخدمات المدفوعة للمواطن، سواءً في القطاع الخاص أو الحكومي، لا تضع ضمن مفاهيمها وأنظمتها وفكرها الإداري عنصراً أساسياً هاماً هو ثقافة الاعتذار لمستهلكي خدماتها عند حدوث الخطأ والتقصير منها. كانت هذه الثقافة غائبة لأن غيابها تأصل نتيجة فكر عقيم يعتقد أن المستهلك عليه أن يحمد الله أن توفرت له تلك الخدمة أياً كانت، وكيفما كان مستواها، وأن الجهر بالتذمر من التقصير في تقديمها أو الخلل في جودتها ليس من حق المستهلك، وإنما تجاوز وتطاول غير مقبول، قد يؤدي إلى اتهام المشتكي المتضرر بـ«التشكيك المتعمد في الجهود والخدمات التي تقدمها الدولة»، وهي الكليشة التي كان يستخدمها كثير من المسؤولين للتهرب من المسؤولية، وتحوير الموضوع وحرفه إلى مسار آخر لتوريط المواطن المتضرر، بينما هو لا يقصد ذلك أبداً بطبيعة الحال.
من حسنات هذه المرحلة الرائعة التي نعيشها الآن أن ذلك الخطاب الذي كان يلجأ إليه بعض المسؤولين أصبح يتلاشى بشكل سريع، ويكاد يصبح نادراً، وسوف ينقرض قريباً. والسبب أن مفهوم المسؤولية تغير، فلم تعد كرسياً ذهبياً وصلاحيات لا حدود لها وسلطة مطلقة للمسؤول في أي جهة كانت، يدافع عن أخطاء جهته دون خجل، وينافح عن تقصيرها دون حياء أو خوف، لأنه يعرف جيداً أن استمراره مرهون بالإنجاز المتميز وتحقيق المستهدفات، وأنه في موقعه لخدمة الوطن والمواطن بإخلاص وتفانٍ، وفي حالة التقصير والإهمال وسوء استخدام السلطة فإنه لن «يُعفى بناء على طلبه»، بل سيخضع للمساءلة والمحاسبة، وفي حالة ثبوت إدانته سوف يعرف كل الناس ذلك، لأنه لم يعد هناك تعتيم أو مجاملة لمقصر أو فاسد.
إن ما نشاهده الآن من اعتذارات معلنة تقدمها الجهات التي يعتري أداءها خلل لأي سبب هو تصرف حضاري واستشعار للمسؤولية الكبيرة أمام المواطن والدولة. الخطأ وارد في أي وقت وفي كل مكان في العالم، لكن إنكاره والمكابرة عليه هو الخطأ الأكبر والأفدح، والاعتراف به والاعتذار عنه وتحمل مسؤوليته هو التصرف السليم الذي يؤدي إلى الاحترام والثقة.