يقال إن المياه الراكدة لا تجلب إلا الموت، وكذلك الحياة بلا أحداث لا تجلب إلا الصمت. الشاعر يصنع قصيدته وفق حدث ما أو يستفزه الحدث أو على الأقل يلهمه لكتابة النص.
هناك حالات صنع فيها الشعراء الحدث، وخلدوا ما لا يخلد أو استحدثوا ما لم يحدث، لكنه الخيال الشعري الذي رسم حدثاً من العدم.
الشعراء في علاقتهم مع الحدث ينقسمون إلي قسمين: شعراء يكون تأثير الحدث عليهم أكبر فتظهر قصائدهم وكأنها مصنوعة للحدث ومن أجله، وشعراء تغلب شاعريتهم وتظهر تجربتهم وبصمتهم الشعرية مهما كان الحدث.
غالباً ما يكون الشاعر الكبير صاحب البصمة الشعرية المتميزة قادراً على أن يكتب عن الحدث بلغته الشعرية، ولا تنفصل قصيدته تلك عن خطه الشعري المعروف عنه، وهذا ما أسميه هنا (مقاومة الشاعر) مهما كانت جاذبية الحدث وتأثيره وحجمه.
حين نتأمل المعلقات كمثال لقصائد كتبت عن حدث مهم نجد أن القصيدة تمثل صاحبها، وتعبّر عنه بشكل واضح، ولم يكن الحدث مؤثراً في الخط الشعري لصاحبها، وهذا يدل على عظمة أولئك الشعراء واستحقاقهم للخلود الذي نالوه. لكننا إذا انتقلنا للثورة التي أحدثها ظهور النبي محمد عليه الصلاة السلام، الذي جعلنا حين نتدارس قصائد الشعراء المخضرمين أمثال حسان بن ثابت أو كعب بن زهير نجد أن ذلك الحدث قد أحدث تغييراً جذرياً في تجربتهم الشعرية، وهو ما أسس لاحقاً ما يسمى بالأدب الإسلامي، وهي تسمية تعود لتأثير الحدث وجاذبيته الكبيرة التي لم يستطع الشعراء مقاومتها. ذلك التأثير استمر حتى بداية العصر الأموي الذي ظهرت فيه تجارب شعرية عظيمة، ظهرت مقاومتها للحدث جلية، وكانت تلك المقاومة هي السبب الرئيسي في تلك الثورة الأدبية والشعرية التي استمرت زمناً طويلاً وأفرزت لنا شعراء الصف الأول، ولم تكن الأحداث الأخرى الصغيرة قادرة على التأثير في قصائدهم، ونادراً ما تجد لهم قصائد لا تشبههم لمجرد الكتابة عن حدث ما.
العصر الأندلسي كان بداية عصر شعري مختلف، وكأننا أمام جاذبية حدث أقوى من القدرة على مقاومته، وهناك ظهر الشعر الأندلسي والموشحات التي جذبت شعراء عصرها إليها، وشكلت خطاً شعرياً جديداً.
العصور التي سميت بعصور الركود كان فيها الحدث هو المشكِّل لهوية القصيدة، وكانت التجارب الشعرية غير مستقلة، وحتى تلك التي تبدو كأنها اتخذت خطاً مستقلاً كالقصائد الصوفية هي في حقيقتها انجذاب آخر لتأثير التصوف وإن صنع خطاً لشعراء اتخذوه منهجاً لكتابة النص.
الشاعر يجتهد طوال تجربته الشعرية لصناعة لغته الخاصة وتكوين طريقته في كتابة الشعر، لكن الحدث وحده الكفيل بتقييم تلك التجربة وتبيان قدرة الشاعر على مقاومة الحدث أو الاستسلام لجاذبية الحدث والكتابة بروح وهوية وسطوة ذلك الحدث، وهو تقييم صادق لا يكذب أبداً.