•• وصل لأذني هاتفياً صوت «الجِنْتل» الذي كنا نشتمُّ منه قديماً رائحة الصابون البلدي.. أغمضت عيني لاستنشق عن بُعد رائحة قديمة تمددت في كل شراييني.. رائحة بمذاق مخلوط بعطرة البحر وزهرة البر.. نبرته المشوشة اضطرتني لزياته في بيته، فوجدت من كان يشتري كل ما يشتهيه يرتجف جوعاً وكأنه ينخلع من ضلوعه.. لمحت شروداً وقلقاً يطل من عينيه، ولكنه يتظاهر بالبشاشة واللامبالاة.
•• قصة هذا الصديق المُسِن المُحزنة؛ وجه آخر لسنين مبتورة النهاية باخت مع الزمن.. رجل قادته خُطاه شاباً للإنفاق ببذخ والإسراف بترف؛ فاحتلت قلبه الحالي دهشة زمن خالية من الفرح.. حبه القديم لتبديد المال بلذاذة؛ جعله يتذوق الآن طعم الندم بصمت لا يستطيع معه عزف مواويل البهجة.. عصر الطفرة الذي عاشه لنفسه في زمن مضى؛ أصبح الآن قضباناً حديدياً يكبِّل حياته.
•• ذلك الرجل في حالته الحالية؛ يُصبح نائحاً ويُمسي نادباً.. يداه المرتعشتان لا تتوقفان عن الحركة.. فبعد أن كانت روحه تشبه عروق النعناع وأوراقها الخضراء؛ يقف الآن مطيعاً للواقع إلى درجة الحسرة.. وحين مضغت نفسه حنينها إلى زمن سبق؛ استقبل ما تقذفه أمواج الحياة من هلوسة لم تعصمه من الفاقة.. ولو أنه استقبل من أمره ما استدبر لتخلى عن البذخ.
•• الناس على شاكلته؛ يعيشون في دواخلهم آلاماً لا تموت، وحَزَنهم يتغذى من سعادتهم وراحتهم.. فمن أفرغ جيبه في شبابه لن يرتاح في شيخوخته.. ومن كان يرتدي معطف «التفاخر» دون ترويض لذاته يكشف الزمن عورته.. أما من منح نفسه قليلاً من «التقشف» في بدايات اكتسابه؛ تجبر الحياة خاطره فتهديه السعادة في نهايات عُمره.. فلا مستقبل لشخص أشعل النار في مستقبله.