انتهى حج هذا العام، وأدى المسلمون فريضتهم في يسر وأمن وأمان والحمد لله، بإشراف مباشر من خادم الحرمين الشريفين وولي عهده الأمين حفظهما الرحمن.
تم تسخير كافة الإمكانات البشرية والمادية وتطويع المكان ليكون في خدمة ضيوف الرحمن بعيداً عن الزاحفة عقولهم نحو الشعارات والأيديولوجيات والهتافات الخرقاء، فالحج شعيرة وليس منبراً للمأزومين ومن في قلوبهم مرض.
منذ أن سخّر الله عز وجل لخدمة الحرمين الشريفين والأماكن المقدسة مؤسس هذا الكيان ومن أتى بعده من أبنائه الكرام تحقيقاً لكلمة الله ووعده فعملوا على تطبيقها والالتزام بها «أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا ءَامِنًا وَيُتَخَطَّفُ ٱلنَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ۚ أَفَبِٱلْبَٰطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ ٱللَّهِ يَكْفُرُونَ».
وهذا ما أكده ولي العهد الأمين «إن الدولة ستواصل تقديم كل ما من شأنه أن يخدم قاصدي الحرمين الشريفين ويعينهم على تأدية عباداتهم بأمن وطمأنينة».
الأحكام الشرعية ثابتة لا تتغير بتغير الزمان والمكان، ولا يملك كائن من كان القدرة على تغييرها أو تبديلها، فهي من ثوابت المسلم.
يقول ابن القيم في (مفتاح دار السعادة) الشرائع كلها في أصولها وإن تباينت متفقة مركوز حسها في العقول ولو وقعت على غير ما هي عليه لخرجت عن الحكمة والمصلحة والرحمة، فكل ما جاءت به الرسل هو من عند الله متحد الأصل، منها ما يتعلق بمصلحة ثابتة لا تخضع لظروف الزمان والمكان كوجوب الإيمان بالله والصلاة والزكاة والصيام والحج ومنه ما يتعلق بمصلحة تخضع لظروف الزمان والمكان واختلاف الأحوال، فيجرى عليها التبديل والتغيير، فالدين وحدة واحدة ويأتي الاختلاف في الشرائع والمناهج، فالأحكام نوعان، نوع لا يتغير عن حالة واحدة فلا يتطرق إليه تغيير أو اجتهاد كوجوب الواجبات وتحريم المحرمات والحدود.
والنوع الثاني ما يتغيّر بحسب اقتضاء المصلحة العامة، فاختلاف الأعراف والعادات يتبعه اختلاف الحاجات والأغراض والمصالح فتختلف مناطات الأحكام، واختلاف الأحكام عند اختلاف العادات ليس في الحقيقة باختلاف في أصل الخطاب، وكون هذه الأحكام أخذ بعضها بالاجتهاد المتغير لا يخرجها عن الشريعة بل يصدق عليها أنها شريعة استناداً إلى أدلة جواز الاجتهاد والاستنباط وأحكام الشريعة، وقد عصمها الله من التحريف والتبديل بحفظه للقرآن الكريم والسنة النبوية.
جاء في أحكام القرآن للقرطبي أن أحد العلماء سئل لما جاز التبديل على أهل التوراة ولم يجز على أهل القرآن، فأجاب، قال الله عز وجل في أهل التوراة «بما استحفظوا من كتاب الله»، فوكل الحفظ إليهم فجاز التبديل عليهم، وقال في القران «إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون»، فلم يجز التبديل عليهم لأنه وكل الحفظ إليه.
هناك مصطلح يعرف بالمصلحة العامة أو المرسلة وتغليبها، وقد عرفها الغزالي بأنها تعنى جلب منفعة ودفع مضرة، وتعني المحافظة على مقصود الشرع، وهو المحافظة على الدين والعرض والمال والعقل والنفس.
ويقول الخوارزمي إن المصلحة هي المحافظة على مقصود الشرع بدفع المفاسد عن الخلق. وعرفها البعض الآخر من الفقهاء بأن المصلحة ما لو عرضت على العقول تلقته بالقبول. وهذا ما كان أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام يفعلونه فينظرون إلى الأمر وما يحيط به من ظروف وما يحف به من مصالح ومفاسد، ويشرعون له الحكم المناسب وإن خالف ما كان في عهد رسول الله من حيث الظاهر، وليس هذا إعراضاً منهم عن شريعة الله أو مخالفة لرسوله، بل هو سر التشريع الذي فهموه ووعوه ولولا علمهم وإدراكهم بجواز كثير من الأمور لما أقدموا عليه. وهذا ما نعيشه اليوم على أرض الواقع بعد أن منّ الله علينا بمن أوجد الوسطية فينا وأنزل سماحة الإسلام ويسرة على مسيرة حياتنا وطبق روح الشريعة على أداء ما أوجبه الله علينا بعيداً عن التشدد والتنطع، فما شاد أحد في دين الله إلا وغلبه فالدين يسر وليس عسراً.
فكانت هذه الوسطية وتفعيلها سبباً في اختفاء أصوات كانت تنعق في المشاعر تمنع المباح وتُشدد على حجاج بيت الله في أداء شعائرهم، لا تراعي مصالح ولا تدفع مفاسد، تأخذ بالرأي المتشدد، تحدد للحجاج وقت رمي الجمرات، تدفع بهم إلى التزاحم ثم الموت تدافعاً، كانت تمنع من أراد أن يخرج من مزدلفة قبل منتصف الليل أو يبات خارج منى أو حيث تنتهى به الخيام أو يوكل عنه من يرمي له الجمرات أو يؤخرها، رغم أن نبي الرحمة كان يقول لكل من سأله «افعل ولا حرج» خالفته بقولها «لا تفعل وإن كنت في حرج»، لم تستخدم رخص الإسلام وسماحته في أداء فريضة الحج، فكنا في حرج من زحام وتدافع وفوضى وفقد وألم. الكثير من الأعمال المباحة تركت من باب سد الذرائع، فقد أخر سيدنا عمر صلاة الفجر حتى أسفر ليغسل ثوبه من أثر الاحتلام، وقال لعمرو بن العاص أغسل ما رأيت وأنضح ما لم ترَ، تطويل الصلاة من الأمور المباحة، ولكن قد تكون ذريعة إلى فتنة الناس ترك أبوبكر وبعض الصحابة الأضحية مخافة أن يظن الناس وجوبها. قضى عمر بتوريث الزوجة التي طلقها في مرض الموت سدّاً لذريعة حرمانها من الميراث. والأمثلة كثيرة تطفح بها كتب الفقه والسيرة.
مقاصد الشريعة هي تحقيق لمصالح الناس، وأحكام الله قائمة على رعاية المصالح، وأنه شرع الأحكام لمقاصد. فليس بالتشديد والتضييق يتم الحفاظ على الدين، بل قد يؤدي إلى نتيجة عكسية وقد عشناها زمن الغفوة.
نردد مع ملك القلوب سلمان أن يديم الله الأمن والاستقرار على الوطن والأمتين العربية والإسلامية
والحمد لله رب العالين.