لعل أسوأ نموذج قيادي هو ذلك الذي لا يهتم بالقرارات الاستراتيجية بعيدة المدى ويركز فقط على الأوضاع الراهنة، كما أنه لا يبحث في جذور أي أزمة تواجهه بل يكتفي بالمسكنات لعلاجها، ولا أبالغ إن قلت إن جميع قادة إسرائيل منذ نشأتها وحتى اللحظة الراهنة لا يكترثون إلا بالواقع الراهن، فهم لا يمتلكون القدرة -أو لعلها الجرأة- لمعالجة الأزمات على نحو صحيح، ودوماً ما يتركز تفكيرهم على كيفية معالجة الأزمات على المدى القريب.
من المسلّم به في عالم السياسة أنه يفضل حل الأزمات دبلوماسياً، ولا يتم اللجوء للحلول العسكرية إلا في نهاية المطاف، غير أن السياسة الإسرائيلية تطبق الفكرة بشكل عكسي دوماً؛ فأول ما يتبادر إلى أذهان قادة إسرائيل هو كيفية حل الصراع عسكرياً، ولاحقاً قد يفكرون في بذل بعض المساعي الدبلوماسية، وهذا التوجه يوضح طبيعة العقلية التي تدار بها إسرائيل ويفسر سلوكياتها، فإسرائيل تعلم أنها تأسست على أنقاض حقوق شعب آخر، وأنها تحتل أراضي عربية يتوجب إعادتها لأصحابها بموجب القرارات الدولية، ولذلك فهي ترفض تماماً مبدأ الحلول الدبلوماسية وتتمسك بالحل العسكري.
لو قام سارق باحتلال أرضك وحمل بندقيته لمنعك من الاقتراب منها، فمن المؤكد أنك إن طلبت منه تحكيم القضاء سيرفض تماماً، لذلك لا يجد أمامه سوى اللجوء للعنف في عالم يغيب عنه الحق، فإسرائيل تدرك جيداً أن أية جهود عربية أو حتى غربية لإدانتها في مجلس الأمن سيبطلها الفيتو الأمريكي، ولعل هذا الغطاء الذي تحظى به إسرائيل هو ما دفع الكثير من زعمائها للتوسع في استخدام الحلول العسكرية.
غير أن هذا المنطق دفع إسرائيل وشعبها لأن يعيشا على صفيح ساخن لعقود طويلة، فمقاومة الاحتلال سواء في مزارع شبعا اللبنانية أو الجولان السورية أو في الضفة الغربية وغزة لم ولن تتوقف، وهو ما يجعل إسرائيل دائماً في حالة صراع، وفي صراعها الأخير ضد سكان غزة تدير إسرائيل الحرب بدموية تعجز الكلمات عن وصفها، ولذلك فإن الجهود الدبلوماسية لا تذعن لها إسرائيل إلا في آخر المطاف بعد أن تنتهي من قتل كل من تستطيع قتله من أبناء الشعب الفلسطيني.
خلال الأزمة الأخيرة اتضحت الكثير من معالم السياسة الإسرائيلية للعيان، فالدولة التي أُسّست على أراض محتلة ترفض اللجوء للقانون الدولي لأنها تعي جيداً أنها أراضٍ مغتصبة، لذلك فهي تسعى لتهجير السكان الأصليين في أي دولة تقبل بهم، وهو ما تجلى مؤخراً في ترحيب وزير المالية الإسرائيلي بالمقترح الذي قدمه أعضاء بالكنيست الإسرائيلي بتوطين سكان غزة في الدول الغربية.
خلال الحرب التي تجاوزت الشهر يخرج علينا بين الفينة والأخرى مجلس الحرب الإسرائيلي بقيادة نتنياهو ليتحدث عن انتصارات جيشه، ولا أعلم عن أي انتصار يتحدث، وبمَ يتباهى؟! فالحرب التي تقودها إسرائيل على غزة بكل ما تملكه من أسلحة متطورة مدعومة بغطاء استخباراتي أمريكي تواجه بها مدنيين عزل، وحتى تلك المواجهات العسكرية التي تدور بينها وبين المسلحين الفلسطينيين غير متكافئة عدداً وعتاداً، وفي كل مرة نتفاجأ من تصريحات مجلس الحرب التي تشعرنا بأنهم يخوضون حرباً شرسة ضد دولة نووية شاسعة الأطراف.
انعدام التكافؤ بين الطرفين دفع الكثير من شعوب العالم للتنديد بل واحتقار الممارسات الإسرائيلية ضد سكان غزة، ودوماً ما يكرر رئيس الوزراء الإسرائيلي بأن الحرب لن تتوقف إلى أن تتم استعادة الأسرى البالغ عددهم قرابة مائتين وخمسين، وفي كل يوم تقتل إسرائيل في غزة والضفة هذا العدد وربما أكثر، حتى تجاوز عدد الضحايا حتى كتابة هذه السطور 13 ألف قتيل مدني، والسؤال المهم هو: هل يحق لإسرائيل أن تقتل آلاف المدنيين لاستعادة مائتين وخمسين أسيراً؟
قبل أيام صرح وزير الحرب الإسرائيلي بأن إسرائيل تُذكّر اللبنانيين بأن بيروت ستصبح غزة أخرى في حال استمرار القصف من جنوب لبنان على شمال إسرائيل، وهذا التصريح -في حد ذاته- يمثل اعترافاً ضمنياً بمجازر إسرائيل التي ارتكبتها في قطاع غزة، وبأن قادة إسرائيل تعمدوا تدمير القطاع عن نية مبيتة، وقد بلغ عدد القتلى من الجنود الإسرائيليين في المعركة البرية داخل غزة حتى كتابة هذه السطور 67 جندياً، ويصرح نتنياهو ووزير حربه بأنها خسائر مؤلمة، فإن كانت مؤلمة فبِم يصف الألوف من القتلى المدنيين الفلسطينيين؟
لقد انتفض الشارع الغربي مندداً بمجازر إسرائيل في حربها اللاأخلاقية، ويصف قادة إسرائيل بعض الأصوات المنددة بأن ذلك معاداة للسامية، وتناسوا أن هناك الآلاف من الأبرياء من المدنيين الذين قتلوا سواء في قصف مباشر أو بسبب قطع الإمدادات الطبية والغذائية، ولا أعلم تحت أي بند يندرج قتل هؤلاء المسلمين العرب وفقاً للقاموس الإسرائيلي.. حقاً إنهم زمرة تفتقر للحياء.