في ظل الانتهاكات المتتالية من جيش الاحتلال الإسرائيلي ودمويته المفرطة ضد المدنيين العُزّل في الأراضي الفلسطينية؛ التي تسببت في اندلاع المظاهرات بالعديد من مدن العالم، سعت العديد من دول العالم -بمن فيهم بعض الدول دائمة العضوية بمجلس الأمن كفرنسا وروسيا والصين- لدعم قرار يوصي بقبول فلسطين كعضو في المنظمة الأممية، لكن الولايات المتحدة سرعان ما أجهضت هذا القرار باستخدام حق النقض، بدعوى عدد من الذرائع الواهية التي لم تستطع أن تخفي حقيقة سعي الولايات المتحدة لإرضاء الطرف الإسرائيلي، الذي يعارض بشدة هذه الخطوة بطبيعة الحال.
لا أعلم ما هو شعور ممثل الولايات المتحدة في مجلس الأمن وهو يرفع يده ملوحاً برفض دولته هذا الاقتراح، وهو يشاهد غالبية دول المجلس تؤيد حق الفلسطينيين، من المؤكد أن قرار الولايات المتحدة مثار سخرية غالبية دول العالم، فهناك عدد كبير من الدول تعترف حالياً بدولة فلسطين، ومن المفترض أن يأتي قرار مجلس الأمن تتويجاً لرغبة الدول الأعضاء في المجتمع الدولي، لا أن تقرر الولايات المتحدة وحليفتها إسرائيل وحدهما مصير هذا الأمر.
من المؤلم أن تمنح طبيعة تكوين هذا المجلس دولة منفردة القدرة على إجهاض قرارات أممية، لا لشيء إلا لأنها تسعى لخدمة مصالحها الخاصة (وأهمها إرضاء اللوبي الصهيوني) الذي يسري في شرايين بعض الأجهزة السيادية في الولايات المتحدة كالبيت الأبيض والكونجرس، ولو عدنا للتاريخ فسنجد أن هناك العديد من قرارات مجلس الأمن التي أدان أعضاؤها إسرائيل لقيامها بارتكاب جرائم حرب، سواء ضد الفلسطينيين أو ضد بعض الدول العربية المجاورة لها، وأجهضتها الولايات المتحدة مستخدمة حق النقض.
من المعروف تاريخياً أن مجلس الأمن الدولي -الذي تشكل بعد الحرب العالمية الثانية- يعتمد على نفوذ خمسة أعضاء دائمين، لأي منهم الحق في إجهاض أي قرار يصدره مجلس الأمن ودون إبداء أي أسباب، ولعله من الجدير بالذكر أن عدد القرارات التي استخدم فيها حق النقض منذ إقراره وحتى الآن قد يزيد على مائتي قرار، نصيب الولايات المتحدة وحدها منها ما يزيد على المائة قرار، ومن دواعي السخرية أن يكون جزء كبير منها هدفه فقط منع إدانة إسرائيل لانتهاكها الحقوق والأراضي العربية، أما الجزء الباقي منها فتهدف لمنع ممارسة الشعب الفلسطيني لحقوقه المشروعة مثل القرار الأخير الذي تم إجهاضه.
لعله من الخطأ الجسيم أن نقوم بتوصيف الصراع المندلع في غزة بأنه صراع إسرائيلي - فلسطيني فقط، فإن كانت الطائرات (بذخائرها) المغيرة على غزة صناعة أمريكية بحتة، والمعلومات الاستخباراتية التي تقدمها الأقمار الصناعية للجيش الإسرائيلي توفرها الولايات المتحدة، وفي نفس الوقت تقوم الولايات المتحدة بمنع إدانة إسرائيل، فيحق لنا أن نصف هذه الحرب بأنها أمريكية - إسرائيلية.
لاشك أن أخطر أنواع الحروب التي قد يخوضها شخص أو حكومة تلك التي يتم خوضها ضد خصم يجيد الكذب ولي أعناق الحقائق، فإسرائيل تقول إن حل الدولتين يجب أن يتم اتخاذه بموافقة الطرفين، في الوقت الذي يعلن فيه زعماؤها أن وجود دولة فلسطينية يشكل خطراً على أمن إسرائيل، ولذا يتوجب على الفلسطينيين الاكتفاء بالحكم الذاتي، فكيف يمكن حل هذا التعارض؛ حيث تغلق إسرائيل الأبواب ثم تطالب في ذات الوقت باتفاق مع طرف لا ترغب في الاعتراف بحقوقه.
يعتقد البعض أن الحل الأمثل في الوقت الراهن هو تفعيل الحلول السياسية من خلال تكثيف الجولات الدبلوماسية التي توضح للعالم حقوق الشعب الفلسطيني، ولكن ما جدوى ذلك؟ ألا يعرف الجميع غرباً وشرقاً طبيعة الصراع في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ونحن نجزم بأن حتى زعماء إسرائيل متيقنون من أنها أراضٍ محتلة، ولعل المظاهرات التي اندلعت في بعض الجامعات الأمريكية مطالبة بحقوق الفلسطينيين لأصدق دليل على اعتراف الشعوب الغربية بالهوية الفلسطينية.
تابعنا جميعاً الحملات الأمنية التي قامت بها الشرطة الأمريكية لفض المظاهرات الطلابية واعتقال العشرات منهم، وقد عدت بذاكرتي لأكثر من عقد مضى خلال ثورات ما يسمى بالربيع العربي، حين انتقدت وقتها حكومة الولايات المتحدة قيام بعض الدول بفض تلك المظاهرات مدعية أنها تتعارض مع حرية الرأي والتعبير، ولعل أكثر ما يثير السخرية هو تصريح رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو بأن تلك المظاهرات معادية للسامية ونعتها بأشد العبارات، ولعل ما يثير السخرية أيضاً هو تصريح الخارجية الأمريكية بأن تصريح نتنياهو لا يمثل تدخلاً في الشؤون الداخلية للولايات المتحدة، وتخيلت لوهلة فيما لو صدر هذا التصريح من رئيس حكومة دولة أخرى، وعن طبيعة رد الولايات المتحدة -آنذاك-.. حقاً شر البلية ما يضحك!.