يتداخل الإعلام ويتقاطع في كثير من الأحيان مع قطاعات ونشاطات ومجالات شتى في الحياة العملية وفي العلاقات الدولية، ومن أكثر هذه المجالات والنشاطات تداخلاً وربما التباساً هي العلاقة المتداخلة والملتبسة بين ملف حقوق الإنسان والإعلام، خاصة عندما يستخدم هذا الملف في تسميم العلاقات الدولية أو شيطنة الدول بعضها بعضاً أو استخدام الملف للابتزاز.
وفي الحقيقة يمكن فهم التداخل بين الجانبين، لو تم النأي بملف حقوق الإنسان بعيداً عن تسييس الملف في ابتزاز مواقف الدول للحصول على تنازلات أو تحقيق مكاسب في ملفات لا علاقة لها بملف حقوق الإنسان في الدول المستهدفة، كما تفعل الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية ضد روسيا والصين وبعض الدول.
لقد كشفت الحرب الصهيونية على غزة حقيقة الموقف الغربي الرسمي من حقوق الإنسان أمام هول المجازر وحملات التجويع والإبادة الجماعية والتطهير العرقي التي يقوم بها الجيش النازي للاحتلال في فلسطين، وقد رأى العالم حجم النفاق والكذب وازدواجية المعايير التي تمارسها المؤسسة الغربية الرسمية في موضوع حقوق الإنسان وحجم تورط المؤسسات الإعلامية في تزوير الانتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان، خلافاً للصورة الحضارية للمؤسسة الرسمية الغربية والتي يروج لها الإعلام والتي فضحتها حملات القمع ضد طلاب الجامعات المناهضين للحرب على غزة، وفضحها استخدام الفيتو الأمريكي مراراً وتكراراً لصالح مجرمي الحرب في تل أبيب وضد وقف الحرب الإجرامية على أطفال غزة ونسائها وشيوخها وضد عمال الإغاثة وضد الأطباء والمرضى والطواقم الطبية في مشفيات غزة، وضد اللاجئين المحتمين في مدارس الأنروا هرباً من القصف بالأسلحة الأمريكية والأوروبية.
السؤال بعد كل ذلك، إلى متى تتوهم المؤسسة الرسمية الغربية أحقيتها وأهليتها في استخدام ملف حقوق الإنسان في ابتزاز الدول واستخدام هذا الملف سيفاً مسلطاً للحصول على تنازلات أو مكاسب من مواقف تلك الدول؟ ومن أعطى الدول الغربية الحق في الدفاع عن حقوق الإنسان أصلاً وهي المتهمة عبر تاريخها بارتكاب الفظاعات ضد السكان الأصليين في كل مكان وضد البشرية؟ ولماذا لا تتبنى الدول المستهدفة موقف الهجوم ضد الدول الغربية في ملف حقوق الإنسان بدلاً من موقف المدافع أو المتفرج؟
إن تسييس الغرب لملف حقوق الإنسان وتورط الإعلام الغربي في تبني وجهة النظر الغربية المطلقة لادعاءاته الكاذبة ونفاقه والكيل بمكيالين، يجعلنا نتساءل عن أسباب غياب تحرك فاعل ونشط من الهيئات والجمعيات الوطنية لحقوق الإنسان في الدول غير الغربية وصولاً لعمل جاد ومثابر في صياغة وإنتاج حقوق إنسان حقيقية تنطلق من قيم وثقافة وأخلاق الدول غير الغربية، والتي أصبحت تنحرف شيئاً فشيئاً عن الحقوق الطبيعية تحت تأثير الأجندات واللوبيات اليسارية.
لقد حان الوقت لدول الجنوب فرادى أو مجتمعة وهي المستهدفة عادة من الدول الغربية، بأن تعكف على بلورة وصياغة وإنتاج حقوق الإنسان من واقع قيمها وثقافتها وأخلاقياتها ودينها، ولا بد لدول الجنوب المستهدفة من تبني سياسات هجومية في ملف حقوق الإنسان، وعدم الاكتفاء بتلقي الاتهامات والحملات الإعلامية الغربية الممنهجة والمبرمجة ضد كل ما يخالف قيم ومصالح هذا الغرب الذي يبدو أنه خرج عن المسار الطبيعي في مطالباته بحقوق إنسان شاذة ومنحرفة وغير سوية.
إن المتتبع لسياسات الغرب في مجال حقوق الإنسان يلاحظ حجم التمادي مؤخراً في فكرة حقوق الإنسان المبنية على الخروج عن الطبيعة البشرية والسجية المقبولة في تكوين الحقوق الطبيعية للإنسان، حتى وصلت لتغيير الجنس وفرض حقوق الشواذ والذي يتناقض تماماً مع مفهوم الأسرة ويتناقض مع حقوق الإنسان بشكل عام.
إن اعتماد هيئات حقوق الإنسان وجمعيات حقوق الإنسان الوطنية في دول الجنوب على مرجعيات ثقافية وأخلاقية وقيمية وطنية هو السبيل الأنجع في تصحيح الكفة وحماية الحقوق الحقيقية للإنسان في الدول والمجتمعات السوية، بعيداً وبمعزل عن التسييس الغربي لهذا الملف.
كما أن المنهجية الصحيحة لتطوير حقوق الإنسان والنهوض بها وأخذها في الاتجاه الصحيح ويواكب القضايا المستجدة التي تتطلب تشريعات جديدة مثل حقوق الإنسان التي فرضتها الأمية الرقمية لشرائح كبيرة من المجتمعات، وحقوق الأطفال بتعلم لغتهم الأصلية «لغة الأم» في مراحل التعليم المبكرة والأولية بعيداً عن أي لغة أخرى تتسبب بعدم بناء شخصية الطفل وهويته الثقافية هي مطلب أساسي، بجانب حقوق الإنسان التي أفرزها الوعي البيئي المتنامي، بالإضافة لحقوق الإنسان ببقاء والحفاظ على الأسرة تتهددها اليوم الكثير مما يسمى «حقوق الإنسان» في الدول الغربية.