أتُرى ثمّة سبيل أصدقُ مسلكاً، وأجدى احتياطاً، وأبلغُ إيفاءً بحقّ الوعي الكامل، والإحاطة الشاملة، والفهم غير الملتبس لقصيدة «سلامُ اللهِ يُنسيني هواها»، للشاعر معالي الدكتور عبدالعزيز خوجة،
والذي يقول في مطلعها:
بِربكِ هل طواكِ ونال وطراً
وهل ناجيته اها واهاً.
وهل ذاق العُسيلة في مداها
فصاح الوجد هذا مبتغاها
وقد نال المراد لمنتهاهُ
ونلت من اللذائذ منُتهاها
فهل ذابت شفاهُك في لماه
فصاح بسكرة خمري لماها.
من مبتدئ العبور إلى هذه القصيدة من نافذة كتابه الرائع «التجربة»؟!
نحن في مسيس الحاجة إلى استحضار تلك «التجربة»، والإمعان في تفاصيلها، والفحص في منعرجاتها، بحيث تتشكّل في وعينا صورة ماثلة لهذه الشخصية الفريدة، لتغوص من ثمّ في مساقيها، وخلاصة تجربتها، فنتفهم مرامي النص الشعري الذي بين أيدينا، وقد جاء مزهوّاً بديباجته الناصعة، ومراوحته البريعة بين «الحسّي» في أقصى تجليات الشغف المتلاف، و«المعنوي» في أجلى نوازع الوجدان المورق..
نحن نعلم علم اليقين أنّ «الخوجة» على عمق تجربته في الحياة، وتعدد مجالاتها، كان إلى الشعر أقرب وأصعر؛ لم يُؤثر عليه جانباً في حياته، وما يفارق ديوانه البتة، ولم يخرج من ناصع ديباجته، ورنين قوافيه، وظلّ حبيسه قراءة ونسجاً، وإصداراً.. ألم تقرأ قوله في مقدمة «التجربة»: [.. لقد عملتُ في الحقل الأكاديمي، وانخرطتُ في السلك الدبلوماسي لأكثر من عقدين، ودخلت الوزارة مرتين، في الأولى وكيلاً للوزارة، وفي الثانية وزيراً، لكنّ اللقب الأقرب إلى نفسي هو لقب «شاعر»، لذلك وجدت أن الأنسب إصدار سيرتي الشعرية في كتاب مستقلّ مستقبلاً]..
ذاك وعد مبرور ولا شك ننتظره بشوق، ونترقبه بلهفة، ففي تجربة «الخوجة» الشعرية ما يستحقّ أن تضاء جوانبه، وتقرأ وتكشف تفاصيلها بوعي باصر، كما هو الحال مع هذه القصيدة؛ «سلامُ اللهِ يُنسيني هواها» فإن لم يكن بأحدنا صبر على انتظار سيرة الخوجة الشعرية، فلا أقلّ من محاولة الوقوف بتؤدة ومكث وروية، أمام هذا النص، الذي لا يترك لقارئه سوى الذهاب إما في طريق «التفسير» بكل حمولته من المباشرة، والتسطيح الأجوف، أو اتخاذ مسار «التأويل»، بكل مذخوراته من التجاوز، والقراءة المغايرة، بما يجعل القارئ في هذه الحالة منتجاً لنصّه الموازي، ومضيفاً للقصيدة بوعيه المفاهيمي..
وإني آخذ نفسي الآن بالذهاب في مسار «التأويل»، لزعمي أني أعرف معالي الدكتور الخوجة، معرفة تعصمني من حمل «الحسّي» في النص محمل من راهق بعض ثبوت، وتصابى بعد حلم، واندلق بعد جمام.
فإذا النص بهذا المعنى البارق مغتسلٌ عندي في «نهر المجاز» ومبترد في واحة الرمز، فجاء متدثراً بمعانٍ خفياتٍ؛ يبرقن من سجف اللفظ الظاهر كأعمق ما تكون المعاني العميقات، ويتلاصفن من خلف ستاره بنورهن الوهّاج، ولنا من ذلك شواهد لا تُخطئها عين، ويتعامى عنها نظر، فكأنه «يخاتلك» بالواضح الجلي، حتى يحفّزك لاستكناه البعد الكامن في صدف المعنى الخفي، بلا اعتساف أو معاظلة. فهو إن بدا لك في مطلع قصيدته سائلاً في مضض الواله المُعنّى، والعاشق المعذّب عن مصير محبوبته، وقد قضى بينهما الزمان افتراقاً، وشطّ به «الخيال» في رسم صورٍ لها وقد نالت «الوطر» وبلغت من «اللذائذ» منتهاها مع غريمه المُغطّى عليه في تلافيف التجهيل؛ فإنك لا شك رفيق به، شفوق عليه، فأيّ أسى أشدّ مضاضة وأقسى وقعاً من خيبة صاحب العشق الأول، ألم تسمع بقول قائلهم: «وما العشق إلا للحبيب الأوّل».
فذاك هو «الخوجة».. على شدّة ما هوى وعشق، جاء تصويره منسكباً من مداد الغيرة، ومدفوعاً بالهواجس والظنون، وغارقاً في المشاهد التي تُذكي ضرام وحشته، ومواقيد حشاشته، ونيران غيرته، وهو ما عبّر عنه أجلى تعبير حين تنبّه بعد المطلع لحالته واصفاً إياها بقوله:
ضرامُ العشق يسمو في اللّيالي
وكم ذاقَ المعُنّى من لظاها
وقلبي لم يزلْ يأوي هواها
وحبّي لم يزلْ يرعى مناها
وروحي لم تزل تصبو إليها
وعيني لا ترى إلا سناها
وسمعي لم يزل يُصغي إليها
كآياتٍ تُرتّل من سماها
ألا ما أروع هذا القلب الذي دارت دورة الأيام فيه، على كرّ الليالي والحساب، وبقي كما هو وفياً لمن أحب، صدوقاً في ما شعر، نقياً في ما محّض من حب، فبهذه الأبيات السابقات وما تلتها من لاحقات، تنمحي صورة «الحسي» تماماً من شاشة العرض الخاص، وتأخذ المعاني بعدها التأويلي، وتذهب بقارئها في مسالك أبعد، وشواطئ أكثر رحابة، وأهدأ من ثائرة النوازع الحسية، وكل بمقدار ما يمتلك من معرفة، ويختزن من أبعاد، فتأمل قوله:
فأوّل من هفا قلبي لحبٍّ
وأول من سقى عشقي صِباها
وأوّل من سقاني الخمر ثغرٌ
وخاصمني وذوّبني رضاها
وأوّل من كتبُ الحب شعراً
بقلبٍ هام أوّل ما رآها
إن لم تجد العذر للشاعر الواله في الذي سلف من حاله، فلا أقل من تقف معه موقف المعضد والمساند في الذي يلي، فقد ذيّل القصيدة بياقوتة من المعنى البارق، الواصف لحاله الوامق، بقوله:
سلام الحب يغشاها فتصبو
سلامُ اللهِ يُنسيني هواها
أرأيت كيف أنه يطلب البرء والعافية لنفسه بين «سلامين»، ينشدهما نشدان مستغيث، ويستدنيهما استدناء مستجير؛ «سلام الحب» و«سلام الله»، وهل ثمة فرق بينهما!
وبعد، فإن عزّ على «غليظ» أن يرى الشفيف في هذا النص؛ فلا أقلّ من أن يستحضر في وعيه وخاطره، مأثور القول الواصف: «أعذب الشعر أكذبه»، وأن يُثنّي بما نصّت عليه الآية في الذكر الحكيم من أنّ الشعراء هائمون في كل وادٍ، وقائلون بما لا يفعلون.