العالم كله يعيد تركيب وترتيب نفسه بموجب ما يجري في الانتخابات الأمريكية، هكذا هي العادة السياسية على مدى عقود من الزمن، فالرجل الذي يصل إلى سُدة الحكم في البيت الأبيض هو الشخص الذي يؤثر بهذا العالم إلى حدود كبيرة، لذا فإن ما جرى في 13 يوليو الجاري، كان بمثابة الإنذار المبكر لمسار الانتخابات الأمريكية المزمعة في نوفمبر القادم.
إن كان هناك فعلا (رصاصة الرحمة)، فهي تلك التي أطلقها الشاب الأمريكي توماس ماثيو كروكس؛ هذه الرصاصة التي قد تغيّر في الفترة القريبة حياة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب، الذي لا يزال يقاتل بكل ضراوة من أجل العودة إلى المكتب البيضاوي.
ترمب المُدان بارتكاب جرائم جنائية، من هيئة المحلفين في نيويورك بـ34 تهمة سيكون البت بها في 6 سبتمبر، تحوّل بين يوم وليلة إلى أيقونة أمريكية بشعار القوة والتحدي لكل المنافسين، على الرغم من أن الدماء كانت تنزف منه أمام مؤيديه وعدسات التلفزة.
منذ اليوم الأول كان شعار ترمب هو الدهشة والصدمة، سواءً عبر سياساته الدولية والعلاقات مع الحلفاء والأصدقاء، إلى الأوضاع الداخلية في أمريكا والصراع مع الدولة العميقة في الولايات المتحدة، هو فعلاً شخص من نوع هؤلاء القادرين والراغبين بتغيير العالم، حتى في حملته الانتخابية، يبقى ترمب في هذه الانتخابات والانتخابات السابقة مصدرًا لـ(أكشن) تبحث عنه وسائل الإعلام.
ذهبت العديد من وسائل الإعلام إلى اعتبار أن الرصاصة التي اخترقت أذن ترمب هي الطريق إلى البيت الأبيض، لكن علمتنا الانتخابات الأمريكية أنه لا نهايات حاسمة حتى الرمق الأخير، هكذا جاء جورج بوش الابن إلى الحكم، وهكذا جاء ترمب نفسه في صراعه مع هيلاري كلينتون؛ التي كانت استطلاعات الرأي تؤكد أنها سيدة البيت الأبيض، إلا أن ثمة أمراً بات واضحاً أن أسهم ترمب في الحملة الانتخابية ارتفعت بشكل لافت، ففي اليوم التالي من قصة الرصاصة كان ترشيح الحزب الجمهوري لترمب بشكل رسمي «تحصيل حاصل»، بينما بدأت استطلاعات الرأي الأمريكية تشير إلى أن حظوظ ترمب في الفوز باتت أكثر من حظوظ الرئيس الديمقراطي جو بايدن.
بايدن الذي أقر بأنه لم يكن الأفضل خلال المناظرة الأولى مع ترمب، بات مصدر خلاف داخل الحزب الديموقراطي بترشيحه للمنافسة، ظهر في خطاب له في سياق الحملة الانتخابية في السادس عشر من يونيو بصوت عالٍ على غير العادة، في نصيحة واضحة من فريقه الرئاسي أن يدخل مضمار الصراع الصوتي واللفظي والشخصي ضد ترمب، بعد أن اكتسح ترمب إعجاب الجمهور الأمريكي.
لقد حولت (الرصاصة) حياة ترمب إلى (نعيم) وحياة الرئيس الحالي إلى (جحيم)، ذلك أن المطلوب من بايدن أن يكون على نفس المستوى من الإقدام والشجاعة الخطابية لترمب، إلا أن حالة بايدن الصحية والشخصية ليست على مستوى ترمب، وهذا ما يثير مخاوف الديموقراطيين خلال الأشهر الماضية، التي ستتحول إلى معارك طاحنة بين الحزبين والرجلين.
نعم العالم اليوم بانتظار من يصل إلى البيت الأبيض، بعد أن خلطت (الرصاصة) الأوراق الأمريكية، والمشهد السياسي العالمي؛ لأن أياً من هذين الرجلين له مشروع مختلف على المستوى الأمريكي والدولي، وهذا يأتي في ظل وضع دولي على شفا الانهيار وتراجع للسطوة والشخصية الأمريكية، وبالتالي فإن العالم أكثر انتظاراً للمعركة الانتخابية، لأن هذه المرة أمريكا غير أمريكا التي عهدناها، أمريكا اليوم تعاني من صراع خطين متوازيين يمثلهما الجمهوريون والديموقراطيون؛ خطان يحملان رؤية مختلفة عن كل شيء في العالم، وهذا يفرض بطبيعة الحال انقسام العالم، وفق الأجندات والمصالح.
ومن دون استعراض المواقف الدولية من هذه الانتخابات، فإن الثابت أن أمريكا ذاتها بحاجة إلى حسم الصراع الداخلي حتى يرتاح العالم، العالم يريد اليوم أمريكا أكثر وضوحاً، أمريكا أكثر ثباتاً في الرؤية الاستراتيجية للعالم، وبالتالي حدة الانقسام الأمريكي اليوم تنعكس على أمريكا وعلى العالم، وهذا ما يميز الصراع الانتخابي اليوم بين الجمهوريين والديموقراطيين.
هذا الصراع الكبير في أمريكا، ليس كمثله من الصراعات السابقة، بل يحمل في طياته العديد من المقاربات الدولية والتحالفات العميقة، خصوصاً في ظل تنامي الجبهات ومحاولة قوى الصعود إلى القمة مثل الصين، بينما لا تزال القضايا الكبرى معلقة في الشرق الأوسط ومناطق ملتهبة أخرى من العالم، بانتظار البوصلة الأمريكية.