قبل سنوات ليست بعيدة، كان بوسع كثير من الدول والشركات والأفراد معرفة متطلبات سوق العمل والعمل بموجب تلك المعطيات المعرفية لسنوات دون أن يطرأ أي تغيير يُذكر على أسواق العمل رغم شح مصادر المعلومات والمنتجات المعرفية آنذاك، لأن إيقاع التغيير حينها معتدلاً وتحت السيطرة، مما جعل الخطط الدراسية والتدريبية والتمكين ممكنة وتحت السيطرة سواء للدول أو الشركات أو الأفراد ولسنوات طويلة.
لم يعد التخطيط ورسم السياسات لسوق العمل ممكنة دون أن يتخللها أزمات في الوقت الراهن. فلا رب العمل ولا طالب العمل يستطيع أن يخطط لفترة بعيدة أو متوسطة، لقد أصبح الجميع تقريباً يعمل بخطط قصيرة المدى، نتيجة لحجم ونوع تلك المتغيرات والتحولات، مع استثناءات قليلة لبعض المهن التي تمثل العمود الفقري والاستدامة لأي عمل مؤسسي.
لقد فرضت الآلة على الإنسان تحديات ومنافسات تتجاوز قدرات الإنسان المتخصص وتفوق قدرات الإنسان الطبيعي في بعض المواقع، لقد انقرضت تخصصات ومهن، وفرضت مكانها أخرى، لقد أصبح البعض من العاملين مطالباً بإتقان وإجادة عشرات المهارات وربما المهن بسبب التحديات التي فرضتها الرقمنة والذكاء الاصطناعي.
الناجحون في الزمن الماضي القريب أصبحوا ضحايا نجاحاتهم، حيث كانت النجاحات بمقياس المنافسة مع البشر وقبل أن تصبح النجاحات بمقياس المنافسة مع الآلة والرقمنة والذكاء الاصطناعي. أما اليوم فالعاطلون مذهولون ومن يعملون متشككون والطلاب مترددون والمخططون في التعليم والأبوان في الأسرة يتساءلون: أي التخصصات والمهن التي يمكنها أن تصمد في وجه الطوفان غير البشري؟ وكم بوسعها أن تصمد؟ وكم مرة يجب على الشاب والشابة أن يغيّر تخصصه ليبقى في سوق العمل؟ وما هي المهارات والقدرات التي أصبحت تفرض نفسها على جميع العاملين في سوق العمل؟ ما الذي تبقى من إستراتيجيات تمكين الموارد البشرية؟ وكم دبلوم متخصص يجب على الشاب أن يتحصّل عليه ليجد موطئ قدم في سوق العمل أو ليضمن بقاءه واستمراره في سوق العمل والحفاظ على مستوى دخل ثابت يسمح له وأسرته بالعيش الطبيعي الكريم؟
التشريعات والقوانين تصدر لملاحقة المتغيرات والتطورات التقنية والرقمنة والنظريات الإدارية الناجمة عنها، فهل تتمكن هذه التشريعات من الاحتفاظ بالعرض والطلب وفقاً لمعايير تكفل العدالة لرب العمل وطالب العمل؟ وهل تنجح التشريعات والتطبيقات العادلة لها أن تضمن حصول العاطلين من ناحية والعاملين من ناحية أخرى على الأجر العادل وعدم ابتزازهم أمام ما يقدمه الذكاء الاصطناعي من حلول قد يعجز الإنسان مهنياً وطبيعياً عن الوفاء بها مثلما توفرها الآلة؟
هذا الوضع أربك ويربك المؤسسة التعليمية ومخرجات التعليم وأربك مؤسسات التوظيف، ومؤسسات التمكين وحتى التمويل. الأمر يتطلب مراقبة ودراسة وتحليلاً مستمراً وتحديثاً للخطط والإستراتيجيات وإخضاعها باستمرار للمراجعة والتحديث المستمر.
من هنا يمكن القول بأن أسواق العمل لم تعد شأناً اقتصادياً صرفاً، فهي ذات ارتباط مباشر باقتصاد الدول وأمن المجتمعات والاستقرار بشكل عام؛ لأن عدم استقرار سوق العمل قد يتسبب بنزوح المهاجرين واللاجئين مثلها تماماً مثل الكوارث الطبيعية والحروب، بل إن الكثير من الحروب الحالية والسابقة هي في الأساس حروب على لقمة العيش، حتى لو لبست أو أُلبست عباءة سياسية أو دينية أو عسكرية.
لهذه الأسباب وغيرها، عُقد على مدى يومين من الأسبوع الماضي، المؤتمر الدولي لسوق العمل بنسخته الأولى في مدينة الرياض وحضره ما يناهز الـ40 دولة ومنظمة معنية، والذي يهدف في المقام الأول لتكوين منصة تقوم على تبادل الخبرات والمعرفة وأفضل الممارسات المبتكرة حول سوق العمل حاضراً ومستقبلاً، بجانب أهداف أخرى تتعلق بالمتغيرات والتطورات التي تشهدها سوق العمل. وتجربة المملكة جديرة بالاستفادة منها وإثرائها في ظل أبرز اثنين من المتغيرات في التي شهدها سوق العمل السعودي وهي دخول العنصر النسائي على نطاق واسع، وفتح القطاع الخاص لاستيعاب المتقدمين من المواطنين، بعد عقود من اقتصار التوظيف على القطاع العام الحكومي.
لا بد من الإشارة هنا إلى النداء الذي أصدرته اللجنة العالمية المعنية بمستقبل العمل والتابعة لمنظمة العمل الدولية مؤخراً من خلال أحدث تقاريرها والذي دعت فيه الحكومات إلى الالتزام بجملة من التدابير لمواجهة التحديات الناتجة عن «التغييرات التحولية غير المسبوقة في عالم العمل».
أخيراً، وكما أقترحت في مقالات سابقة، أرى ضرورة الأخذ بالأبعاد الاجتماعية الإنسانية، بجانب المعايير الاقتصادية -ولو مؤقتاً- لمواجهة مشكلات مثل البطالة، فالاعتماد المطلق على المعايير الاقتصادية أو الاحتكام لرافعة العرض والطلب في ظل تطورات رقمية متسارعة، سيحرم الكثيرين من العمل، ومن يحالفهم الحظ بالعمل قد يكونون مضطرين للعمل بأجور أقل مما يستحقون بسبب منافستهم للآلة والروبوت والذكاء الاصطناعي الذي لا يتقاضى أجراً، كما قد يترتب عليه ذوبان الطبقة الوسطى في المجتمعات وارتفاع شريحة الفقراء وغير ذلك من الاختلالات الاقتصادية والتنموية والاجتماعية والأمنية لا قدر الله.