تساءلت أثناء حديثي معه: لماذا قرر ترك عمله في وقت لا يسمح له بهذه المغامرة لصعوبة موقفه في الحياة؟.. حاولت الصمت وهو يبرر لأسبابه التي اتفقت على أن الاستقرار النفسي وعدم الشعور بالقهر أهم من رسالة كل شهر «تم إيداع الراتب».
في بعض المؤسسات هناك فئة تسمى «صفُّ الواهمين»، يرددون عبارات التحفيز والدعوات الصباحية بالنجاح والتوفيق، هؤلاء مع ما يواجهون من تحديات لا ينالون حقوقهم أبداً، لا ترقيات ولا تساوي فرص.. وهناك «صف مخملي» يجلسون على كراسيّ صوفية تُنسج للمتمكنين وعائلاتهم فقط، لهم ما يريدون، ومتى يريدون، وكيفما يشاؤون.. وصف ثالث من «الجبناء» لا يتجرأون على قول الحقيقة حفاظاً على مصالحهم وما يربطهم من ودّ مع «أعمامهم».
أعود للحديث عن حواري مع صديقي.. سألته: هل أنت مرتاح بعد الرحيل؟.. في غالب الأحيان يكذب، وأنا أعرف أنه يكذب، وهو يعرف أني أعرف أنه يكذب، ولكن نحاول بروح شمالية «نعدي السالفة».. جوابه هذه المرة على سؤالي كان أصدق جواب سمعته منه، إذا لم يكن الوحيد «لم أشعر في حياتي بسعادة كما شعرت بها عندما قررت الرحيل وفعلت ذلك».
في آخر الأمر أقول: ربما يصبر المرء على حظه في الحياة، والصبر فضيلة عظيمة، وقد قال فيها ابن الشاطر الأنباري:
إذا ما ألمّت شدّة فاصطبر لها
فخيرُ سلاحِ المرء في الشدة الصَبرُ.
إلا أن الشجاعة في قرار الرحيل بعض الأحيان أمان للنفس، وأمانة على الإنسان حمايتها مثلما يحمي جسده، وكما أن الصبر فضيلة، ففي بعض الأحيان رذيلة وذلة، إذ يقول الشاعر سليمان العيسى:
الصبر أغنية الذليلِ
بكل معتركٍ وَسَاحِ
والحقّ إن الحق خنجرُك
المخضّبُ في الكفاحِ.