في كتاب «الجواد العربي» لمؤلفه «سبنسر بوردون» (ت: 1921) من ترجمة الدكتورة إيمان طعمة الشمري، وإصدار جامعة الكويت في سنة 2020، يتتبع المؤلف، وهو ضابط وتاجر خيل أمريكي، الخط التاريخي لانتقال الخيول العربية إلى الغرب والشرق، وتسلل دمائها إلى سلالات خيول المنطقتين، وتشبعها بدماء السلالات العربية الأصيلة النقية، ويؤكد ما للخيول العربية من فضل في تحسين تلك السلالات وتفوقها على سائر السلالات. كما يورد المؤلف أسماء أشهر تجار الخيول في الخليج العربي والجزيرة العربية من أولئك الذين أسهموا في تصدير تلك السلالات العربية، معرجا على دور الإسطبلات المصرية زمن الخديوي عباس حلمي الثاني (1874 ــ 1944) في هذا الشأن.
والحقيقة أن الحديث عن الخيول العربية وعمن تخصص في تجارتها وبيعها من أبناء الخليج والجزيرة في الأسواق الأجنبية، ولاسيما سوق الخيول الكبير بمدينة بومباي الهندية منذ أواخر القرن التاسع عشر الميلادي وحتى منتصف القرن العشرين تقريبا، هو حديث ذو شجون ويشتمل على الكثير من الحكايات والقصص والتفاصيل والشخوص، بل يتمدد إلى خارج نطاق منطقة الخليج ليصل إلى ميناء البصرة العراقي الذي كان يستقبل أجود الخيول العربية القادمة من الموصل والشام في السنوات 1909 و1910 و1911، ليتم تصديرها من هناك أو عبر الكويت إلى بومباي.
كما أن الخيل العربي لعب دورا في تقدم الأتراك العثمانيين نحو الغرب، فعلى صهواته توسعوا في القارات الثلاث ونجحوا في فتوحاتهم، هذا ناهيك عن استخدامهم له في التقرب من الدول الأجنبية وتوطيد العلاقات معها بعد القرن التاسع عشر، أي حينما انتهت فتوحاتهم ودشنوا عصر العمل الدبلوماسي مع الآخر من خلال الهدايا التي كان على رأسها الخيل العربي. وتشير الوثائق العثمانية إلى قيام السلاطين الأتراك بإرسال هدايا من الخيول العربية إلى قيصر روسيا وقادة فرنسا وإيطاليا وألمانيا، بدليل اصطحاب السلطان العثماني عبدالعزيز خلال جولته الأوروبية في سنة 1867م عدداً من الخيول العربية، ليهديها للملوك والملكات والأمراء. كما تشير تلك الوثائق -طبقا لما ورد في دراسة بقلم البروفيسور «زكريا كورشون» نشرها مركز جمال بن حويرب للدراسات بالإمارات- إلى أن السلطان عبدالحميد الثاني عرف باهتمامه بالخيول العربية الأصيلة وتربيتها في مزارعه الخاصة، بل وظَّف لهذا الغرض خبيراً كان يقوم بالتواصل مع بعض شيوخ القبائل العربية المهتمين بتربية الخيول، للحصول منهم على أفضل الجياد مع قوائم بأنسابها.
وبسبب هدايا الأتراك من الخيول إلى ملوك وأمراء أوروبا زاد اهتمام الأوروبيين بالحصول على جياد عربية متنوعة، فبدأوا بإرسال المندوبين والتجار إلى بغداد والبصرة وبلاد الشام ونجد والحجاز بحثا عنها، بعد حصولهم على تصاريح من السلطات العثمانية.
على هامش تجارة الخيول الرائجة في حقبة ما قبل اكتشاف النفط في الخليج العربي، ومعها تجارة اللؤلؤ وتصدير التمور واستيراد المواد الغذائية والتوابل والحراير والشاي والسكر والفحم والأخشاب، نشأت طبقة تجارية من أبناء الخليج والجزيرة في الهند، ولاسيما في بومباي، ميناء الهند الأهم والأكثر ازدهارا والأقرب جغرافيا إلى سواحل الخليج. ومعظم هؤلاء وصلوا إلى هناك فقراء فأغناهم الله بفضله ثم بفضل جدهم ومثابرتهم وصدقهم وأمانتهم، ليعودوا إلى ديارهم بعد سنوات طويلة وهم أثرياء مالا وعلما. ومن هنا جاءت المقولة الشائعة والمتوارثة «الهند هندك لي قل ما عندك»، كناية عن أن الهند أمامك لتحتضنك وتثريك إذا ما دارت بك الدوائر.
ونجد في كتاب «قصة الخيل: تاريخ الهند من على ظهر الخيل» الصادر في عام 2021 لمؤلفته الباحثة الهندية «ياشاسويني تشاندرا»، سردا تراثيا فريدا وشيقا عن ارتباط المهن والسلطة والنفوذ والتقسيمات الطبقية والقصص الشعبية والأغاني في الهند بالخيل، موضحة أنه لئن كان الفيل هو الرمز الحصري للمهراجا والسلطان على اعتبار أن الفيل حيوان ضخم لا يقدر على تربيته والاعتناء به سواهم، فإن الآخرين استخدموا ملكية الجياد وسيلة لارتقاء الهرم الاجتماعي. كما تطرقت المؤلفة إلى حقيقة أن الحصان موطنه ليس الهند لأنه ليس من السهل عليه أن يعيش ويتربى في المناخ الهندي الحار الرطب والخاضع لتقلبات الرياح الموسمية، لذا فإن أمراء الحرب كانوا يستوردون أجوده بثمن مرتفع من مناطق مثل شبه الجزيرة العربية والعراق وأفغانستان وآسيا الوسطى ضمن تقليد استمر حتى منتصف القرن العشرين. وأخبرتنا المؤلفة أيضا أن الهنود كانوا شديدي الاهتمام بسلالات الخيول المنحدرة من البلاد العربية والفارسية والتركية، ونجحوا في تربيتها وتهجينها واستخراج أنواع جيدة من الخيول المحلية التي استطاعوا من خلالها التغلب على الإنكليز في ألعاب الفروسية وسباقاتها وفي رياضة البولو.
يجرنا هذا الحديث إلى تسليط الضوء على التجار العرب ممن امتهنوا تربية وتجارة الخيل العربي في الهند البريطانية، وكانت لهم إسطبلاتهم الكبيرة هناك منذ أواخر القرن التاسع عشر، ومن بينهم الأخوان راشد ومحمد وعيد التميمي من أهالي مدينة عنيزة القصيمية، والتاجر عيسى بن قرطاس من أهالي «حرمة» في سدير، وغيرهم من الشخصيات الوطنية الخليجية المشرفة التي جسدت الأخلاق الكريمة والصفات النبيلة والكرم والورع فكانت خير سفراء لبلداننا في الهند.
على أن أشهر تجار الخيول العربية في الهند هو التاجر النجدي عبدالرحمن المنيع، أحد أبناء بلدة «شقراء» بإقليم الوشم من نجد، والذي سيكون محور هذه المادة، علما بأن نسب آل منيع يرجع إلى قبيلة قحطان من الحراقيص من بني زيد، وهم عائلة معروفة في شقراء ونزح بعضهم إلى الكويت، بينما ظل بعضهم الآخر في نجد.
كتب الأستاذ صلاح الزامل بجريدة «الرياض» السعودية (24/8/2010) عن عبدالرحمن المنيع المتوفى في عام1887 أو 1886، فقال إنه من ضمن أشهر تجار نجد المغامرين ممن ركبوا البحر بهدف الوصول إلى الهند للإتجار بالخيول. وروى لنا أن المنيع اشترى في إحدى سنوات القرن التاسع عشر خيولا للذهاب بها إلى الهند عبر ميناء الكويت (حيث كانت الخيول تجلب من نجد والعراق وتجمع بالكويت ثم تحمل على السفن لتصديرها إلى الهند)، وقدر عدد الخيول التي تم بيعها في عام 1863 مثلا نحو 600 رأس بسعر 300 روبية للرأس الواحد، وذلك بهدف بيعها هناك قبيل موسم سباقات الخيل. وبينما كان على أهبة الاستعداد للسفر، وأهالي بلدته «شقراء» يودعونه ظهر فجأة بينهم من يطالبه بدين قديم ويتوعده بمنعه من السفر ما لم يسدد ما عليه أولا.
لم يكن لدى المنيع من المال كي يستجيب لطلب الدائن لأنه كان قد أنفق كل نقوده على شراء الخيول وتجهيزات السفر، غير أن أحد وجهاء شقراء ويدعى «عبدالكريم بن علي بن مقرن» حسم الموقف بأن وعد الدائن بسداد كل ديون المنيع نيابة عنه. وهكذا ركب المنيع القافلة المتجهة إلى الكويت مع خيوله، ومن هناك ركب السفينة الشراعية المتجهة صوب بلاد الهند عبر مياه الخليج العربي وبحر العرب. يقول الزامل إن الأمور سارت كما يجب، بيد أن عاصفة هوجاء هبت قبل الوصول إلى بومباي، فحطمت السفينة وأغرقتها مع كامل حمولتها من الخيول والأمتعة والركاب، بينما تمكن المنيع من النجاة لأنه كان قويا ويجيد السباحة، ما مكنه من الوصول إلى يابسة الهند بأمان، فشكر ربه على نجاته من الهلاك ودعا المولى أن يعوضه خيرا.
وصلت أخبار الحادثة إلى جماعته في شقراء بعد أشهر، فاجتمع وجهاء البلدة وأميرها، ومن بينهم ابن مقرن الذي أعلن وسطهم أنه سامح المنيع بما عليه من دين، بينما تولى الآخرون جمع بعض المال لإرساله إلى المنيع في غربته كي يعينه على تصريف أموره والوقوف مجددا على قدميه، وذلك في صورة من صور المروءة والتكافل والتآزر التي كانت سائدة في مجتمعاتنا قديما.
وبهذا المال القليل وبما امتلكه من روح المغامرة وعدم الاستسلام لليأس شق المنيع طريقه وبدأ بنسج علاقات تعاون مع من قابلهم وتعرف عليهم في بلاد الهند من التجار العرب الذين سبقوه إلى هناك، وراح يستفيد من نصائحهم وتجاربهم وعلاقاتهم بأعيان الهند ورموز السلطة البريطانية، حتى غدا شيئا فشيئا معروفا بينهم. وما أن حقق لنفسه مكانة تجارية واجتماعية في أوساطهم حتى راح يسافر إلى قلب الصحراء العربية ومضارب بادية الجزيرة العربية والشام والعراق، جالبا منها الخيول للمتاجرة بها في الهند بيعا أو تربيتها في إسطبلات خاصة وإنتاج سلالات جيدة وجديدة منها أو الاشتراك بها في سباقات الخيول الشهيرة بالهند (مثل سباقات ولاية بارودا وسباقات مصيف بونا) حصدا للجوائز المالية الكبيرة.
تطرق الباحث هشام بن خالد البتال في مقال له بجريدة «الجزيرة» السعودية (2/7/2020) إلى رحلة الزوجين الإنجليزيين الليدي «آن بلنت Lady Anne Blunt» (ولدت بإنجلترا في 1837، وتوفيت بالقاهرة في في 1917) وزوجها «ويلفرد بلنت Wilfrid Blunt» (ولد بإنجلترا في 1840 وتوفي بها في 1922) إلى بادية الشام والعراق وحائل ونجاحهما على مر السنين في الحصول على أجود سلالات الخيول العربية، وتطرق أيضا إلى رحلتهما الثانية إلى الهند بين عامي 1883 و1884 والتي قابلا خلالها تجارا من الخليج والجزيرة العربية ساعدوهما في شراء أعرق الخيول العربية الأصيلة، وكان من بينهم التاجر النجدي عبدالرحمن المنيع.
لم يبع المنيع بعض خيوله الأصيلة (مثل الخيل «رتبلان» الذي فاز في سباقات هندية عديدة، والخيل الأكحل «بروكسيمو» الذي تنقل بين أيادي كثيرة إلى أن وصل إلى يد المنيع) إلى الزوجين بلنت في الهند فحسب، وإنما زودهما أيضا برسائل توصية وتزكية إلى جماعته ومعارفه في الرياض حينما علم بنيتهما القيام بمغامرة استكشافية جديدة في صحراء وبادية الرياض، وذلك من باب تفادي تعرضهما لأي مصاعب أو أذى أثناء الطريق.
وقد سجل عن الزوجين كلاما طيبا بحق المنيع، فهذه الليدي آن بلنت تقول في إحدى رسائلها إلى الضابط الأمريكي العقيد سبنسر بوردون إن «عبدالرحمن المنيع، الذي أعرفه جيدا، كان حقا من أصول عربية كريمة، وهو من بلدة شقراء التي تعد واحة في نجد»، مضيفة «لا أحد يتفوق عليه في شخصيته وفي معرفته وحبه للخيول العربية». وهذا زوجها ويلفرد بلنت يكتب في مقال نشرته له دورية «القرن العشرين» في سنة 1884 عن المنيع وأصله ودياره قائلا: «أما عن عبدالرحمن نفسه، فهو ليس بدويا، وإنما من أسرة نبيلة تنتمي إلى مدينة عربية في نجد، وهو سليل أسرة معروفة في شقراء بالقصيم (هكذا كتب)، وهو تاجر خيول معروف في بومباي منذ 30 عامًا، ولم يغير ذلك في عاداته وتقاليده المكتسبة منذ ولادته». واستطرد ويلفرد بلنت في الحديث عنه فتتطرق إلى أمانته وإخلاصه قائلا: «خلال 30 عاما من تاريخه في بيع وشراء الخيول، لم يتهم عبدالرحمن قط بأي صفة غير لائقة، ولم يستغل احتكاره وتجارته بشكل ظالم، بل كان يتمتع بمستوى عال من السمعة الشامخة والقيم النبيلة وشخصية طاهرة غير ملوثة. كثير من المواقف التي سجلت له في كرمه وفي تعاملاته التجارية تعد نادرة في العرف السائد للممارسات التجارية»، ثم أخبرنا قائلا إن: «عبدالرحمن بن منيع كان يشغل منصب نائب جمعية أنجومان إسلام التعليمية، ولكن قلبه كان متعلقا بالخيول وتجارتها، حيث كان يبيع أكثر من 700 خيل في السنة الواحدة آنذاك، أما في بداياته فكان يبيع ما يتجاوز 1500 خيل سنويًا قبل أن يقل الإقبال عليها».
أما التاجر والضابط الأمريكي سبينسر بروتون فقد قال في كتابه المشار إليه آنفا إن أفضل الخيول العربية التي خرجت من الجزيرة العربية كانت بحوزة عبدالرحمن المنيع، وإن الأخير قام، بمساعدة عرب آخرين، بجلبها إلى الهند بقصد بيعها للضباط البريطانيين والمهراجات الهنود الذين حافظوا عليها في إسطبلات خاصة للسباق، مضيفا أن معظم الخيول التي فازت في السباقات الهندية بين عامي 1880 و1890 كان قد تم إحضارها من البلاد العربية إلى الهند على يد التاجر المنيع.
ولعل إحدى آيات تقدير الهنود والبريطانيين معا لدور المنيع في تزويدهم بالخيول العربية الأصيلة، ولما لمسوه منه من أمانة وصدق ومثابرة في تعاملاته معهم، هو إطلاقهم اسمه على شارع من شوارع بومباي. ويقع «شارع عبدالرحمن Abdul Rahman Street» في حي العرب في الجزء التاريخي القديم من بومباي، قريبا من شارع «محمد علي رود»، الذي كانت مكاتبه ومحلاته ومقاهيه ومطاعمه ودوره ملتقى وحاضنة لعرب الخليج من نواخذة وبحارة وتجار ومسافرين.