تجمع الشاعرة الأكاديمية الدكتورة فوزية أبو خالد، بين ريادات عدة؛ فهي رائدة قصيدة النثر في المملكة، إضافةً لريادتها في التنوير ونشر الوعي والدرس الأكاديمي، والنشاط الثقافي والاجتماعي، وتتبوأ الصدارة في مواقفها الإنسانية النبيلة، وهنا عودة للبئر الأولى لنمتح من معين الذكريات ما يسنح به الوقت والمساحات.. وهنا أبرز ما خرجنا به من هذه المسامرة.
• ما الذي تحتفظ به ذاكرتك من طفولة القرية ومدينة الطفولة؟
•• لم أعش طفولتي في قرية أولاً لأن بلدة أبي هي (ملهم) شمال غربي الرياض، وهناك مثل قاله لي الدكتور سعد البازعي مؤخراً يقول «إذا عدت القرى لا تعد ملهم» ولم أزرها في حياتي إلا لماماً؛ لأن جدتي لأبي سارة الحسينان من حريملاء، وكانت تقيم هناك أم جدي إذ توفيت وأبي طفلاً فلم ننعم بطفولة في (ملهم)، وثانياً لأن طفولتي كانت حضرية (أُرستقراطية) بين الرياض ومكة المكرمة والطائف ولبنان وسويسرا، وذاكرة الطفولة تحتفظ بالقفز حافية واللعب على بَرَد الطائف، وبملاحقة حمام الحرم، وبعمل سنومان رجل الثلج بثلوج جبال سويسرا ولبنان وبالكثير من قصص وأساطير خالي هاشم (رحمه الله) خصوصاً في ليالي رمضان، وبكتب المكتبة الخضراء ومغامرات بنات صغيرات للويزا الكوت وتوم سوير لمارك توين.
بهجة استثنائية ودهشة طفولية
• على ماذا استيقظ وعيك المبكر من الأحداث والمواقف والناس؟
•• أُحب مثل هذا السؤال، الحدث العميق والمؤثر الذي أبكى أمي وأبي والجيران وكل معلمات وتلميذات المدرسة الأولى المتوسطة بحي العمارية بجدة وأنا منهن، كان نكسة حزيران، وحريق القدس، وبعدها بقليل خسارة بطل الملاكمة محمد علي كلاي، وموت عبدالناصر وإن لم نحس فيه بنفس اللوعات الأولى، ولكنها بدت أحداثاً ضخمة على مستوى العالم العربي ومؤثرة على الكبار والأطفال.
• ماذا يعني لك شهر رمضان؟
•• في طفولتي إلى وقت قريب ولا يزال يعني لي شهر رمضان بهجة استثنائية ودهشة طفولية مهما تقدمتُ في العمر، فهو شهر غال وخاطف يثور على قول العزيز الراحل الأديب محمد علوان على روتيننا اليومي ويقلب نظام الحياة في ثلاثين يوماً رأساً على عقب. وفي هذا يعيدنا شهر رمضان لمنابع الفطرة السليمة فنتخلص صغاراً وكباراً من زعانف الرغائب البدنية ليس فقط على مستوى الامتناع لساعات طويلة عن الطعام والشراب، بل على مستوى تلك الروحانية التي نحسها تسري في أعماقنا وتحول أرواحنا إلى فراشات طليقة حرة في ملكوت الله.
• هل تذكرين أوّل يوم صيام في حياتك، وهل كان موسم صيف؟
•• أذكر أنني صمته يوماً كاملاً كان صيفاً، وكان صيام من «وراء الزير» كما يقول أجدادنا، فحين نعود من المدرسة نقضي العصرية نتراشق بالماء ونحاول أن يلامس شفاهنا العطشى.
• ما موقف والدتك ووالدك من صومك المبكر، وهل أذنَا لك أو أحدهما بقطع الصيام بحكم الإرهاق؟
•• ماما نور وبابا عبدالله (رحمهما الله) كانا يؤمنان بالحرية لأبعد مدى، وأستطيع القول بالفم المليان: كان لديهما أسلوب تربوي متقدم ونادر اسمه التربية بالحرية، لذا فقد كان لي ولأشقائي العشرة خالص الحرية في قرار الصيام المبكر، مثل أفعال أخرى لي باكراً؛ وكان أهمها بعد عبادة الصيام جريرة الكتابة باكراً.
محطات الحل والترحال
• على ماذا كانت تتسحر الأسرة في ذلك الوقت؟
•• على ما قُسم رز بربيان ناشف، بقايا الإفطار، طعمة الجيران، جبنة وزيتون، المتيسر والسلام.
• ما النشاط المنزلي الذي كنت تُكلّفين به؟
•• أقرأ على أمي القرآن فيما هي حبيبتي حرم الله يديها وروحها عن النار تقرأ خلفي، في الوقت الذي تقوم هي فيه بالعجن والطبخ والخبز وما إليه من طلبات تحضير أطايب الطعام في رمضان، سمبوسة وبريك وجريش وتطلي والماسية وشراب التوت والرمان.
• ما أبرز ما يسكن الذاكرة عن رمضان؟
•• صلاة التراويح، فمنذ طفولتي كان عشقي أن تصحبني أمي لمسجد الملك سعود بحي الشرفية، وقد واظبت على هذا التمرين الروحي السامق في التحليق والطيران حتى في السنوات الطويلة التي قضيتها في الغربة في مواسم التعلم أو العمل بأمريكا وأوروبا، وهي تعد بالعقود.
• ما برنامجك الرمضاني من الفجر إلى السحور؟
•• يعتمد حسب مراحل آلعمر ومحطات الحل والترحال، ففي أمريكا وبريطانيا، ولسنوات طوال في البلدين، برنامج حياتي نصحو السابعة صباحاً ونخلد للنوم العاشرة مساءً. أما على أرض وطني الغالي فيطيب في الليل السهر وتطيب الجمعات مع الأهل والأقرباء والجيران، كما تطيب حالياً في الأجواء الجديدة اللقاءات الثقافية مثل اللقاء الثقافي في بداية هذا الشهر الفضيل؛ الذي استضافتني فيه الحلقة النقدية مشكورة للحديث عن تجربتي في تحكيم مسابقة المعلقة 45 الشعرية لقناة الثقافية وهيئة الأدب والترجمة والنشر وذلك بمكتبة الكتاب بالرياض.
تحولات المجتمع
• أي الطبخات أو الأكلات أو الأطباق تحرصين على أن تكون على مائدتك الرمضانية؟
•• شوربة الحَب واللقيمات وشراب قمر الدين.
• هل تتابعين برامج إذاعية أو تلفزيونية، وما هي؟
•• علي الطنطاوي (رحمه الله) سابقاً، ويوميات أم حديجان، رحم الله الفنان عبدالعزيز الهزاع. والآن ولعامين أو أكثر لا أشاهد إلا مالك بالطويلة للشاب الموهوب (مالك الروقي). وشاهدت رمضان الماضي وهذا الشهر برنامج له طابع علم الاجتماع.. في تناول تحولات المجتمع السعودي بما لذلك من اهتمام خاص في نفسي بحكم التخصص وأيضاً لأنه برنامج مميز ومع زميلين متميزين؛ الأول مع عبدالرحمن الشقير وحالياً مع عبدالسلام الوائل.
• ماذا ومتى تقرأين في رمضان؟
•• طبعاً يكاد ينفرد ببرنامج قراءتي في رمضان معجزة اللغة العربية كتاب الله العظيم القرآن الكريم، وإن أضفت عليه بعض قراءات الأدب.
• من تدعين للفطور معك؟
•• كان بودي أن أقول بأنني أرغب بالفطور في رمضان مع جميع الفقراء في العالم، ولكني أكتفي بالفطور مع أغنياء وجداني من البنات والأبناء والأحفاد والأرحام. وبما أنك تسأل عن هذه اللحظة المشحونة بالأشجان والابتهال لحظة فكوك الريق بعد الصيام، فإنني لا بد أن أصارحك بالجراح والجرح الموجع الذي أجده شخصياً ويجده كل إنسان لحظة مد مائدة فطور رمضان بينما أهل فلسطين على أرض غزة وأطفالهم يتضورون جوعاً وعطشاً وقصفاً ويتجرعون في هذه الأيام الفضيلة الزعاف والزؤام على يد الاحتلال الصهيوني.
• متى تكتبين في رمضان؟
•• كثيراً ما أوقت لكتابتي بين التاسعة صباحاً والواحدة ظهراً أو التاسعة مساء والثانية عشرة منتصف الليل في رمضان وغير رمضان، ولكن أثرى أوقات الكتابة، خصوصاً الشعر، لحظات الغروب ولحظات السحر، فهي أوقات مفعمة بطاقات الوجد.
• هل يصوم الشعر؟
•• الصيام بحد ذاته إلهام.
• لمن كتبت آخر نصوصك؟
•• لسيدة الفيروز، لسيدة في اللغة العربية وفي الصداقة وفي الوفاء الدكتورة وسمية المنصور، جللها الله برحمته، ولا شك أنها وإن رحلت فإن شموسها المتعددة لا تغيب عن شمسها المعرفية والأخلاقية إلى شمس ديما وبدور وهيا بناتها، والدكتور الشمسان زوجها الوفي، والدكتور أوس وبدر ابنيها، إلى جانب شموس الصدقات التي زرعتها بين الرياض والكويت.
• ما الذي تفتقدينه في رمضان هذا العام؟
•• نفتقد جميعاً السلام لأطفال غزة وأهلها.
زميلات الطفولة
• من تتذكرين من زميلات الطفولة؟
•• كثيرات جداااا، وما زلتُ على علاقة جميلة وممتدة مع الكثير منهن، مزنة المحمود، أمل خوجة، نورة وفوزية الحمدان (رحم الله الفوز)، أحلام رحيمي، رجاء عبدالقادر، فوزية وبدرية ونورية التويجري، فوزية الحمد، سميرة أسعد فريال جاد الحق، فاتن كيال، ابتسام وابتهاج بادكوك، نور وآمنة محضار، نورة الجميح، حصة العيسى، فوزية السيد عبدالرحيم، بنات عمي موضي وسارة، وجهير بنت عمتي.
• لماذا يسكننا حنين لأيامنا الأولى في الحياة؟
•• لأننا نعيش فيها خبراتنا الوجدانية والفكرية والحسية الأولى، ونكتشف أنفسنا في مرايا الماء.
• ما المواقف العالقة بالذهن وعصيّة على النسيان؟
•• لحظات الفقد ولحظات الفوز.
• ما حكمتك الأثيرة؟
•• ثابري في البحث عن هذه الضالة / الحكمة ضالة المؤمن.
• وبيت الشعر الذي ترددين؟
•• وطني لو شغلتُ بالخلد عنه نازعتني إليه في الخلد نفسي.