أيا مكّة الحبيبة.. ها هي عرائس المعاني تتهاطل على خاطري الآن مؤتلقاتٍ بالسّوامق من درر المنثور، وبديع المأثور، فلا أجد فيها وبينها ما يماثلك تيهًا، ويناظرك مهابةً، ويسامقك شرفًا، أي لفظ بوسعه أن يصوّر هذا الجلال والجمال والبهاء؟
أيُّ معنى يمكن أن (يكبسل) هذا النّور المنثال من ثراك إلى سمائك، فيمنح الشمس وهجها، والقمر سناه؟
وأنت بعدُ أبهى وأنضر وأشرق معنًى، وأبعد شأوًا، وأنيف مقامًا.
البسْ يا زائرها حلّة الوقار هونًا، ونقّل الخطو وئيدًا، وأنت تدخل حرم مكّة المكرمة المطهّرة، فأنت هنا في حضرة الجلال والجمال والكمال، فإن ارتُجَّ عليك، وانعقد لسانك من سناء بهائها، فاجعل الصّمت حرمك وملاذك، «فالصمتُ في حرم الجمال جمال»، فقط حُلّ عنك وثاق الخاطر، ودعه يسرح في ربوعها، وسرّح بصر فؤادك في إغضاء المحبِّ أدبًا، والمتشوّف شوقًا، فأنت في مكّة العظمة، وأنت في مكّة الجلال، وأنت في مكّة المهابة..
أتبحثُ في خاطرك عمّا يماثل حبّك لها، وشوقك إليها؟ إذن عد بخاطرك، واستدعِ في وعيك تلك اللّحظة من لحظات الحبّ النادر، والحنين إلى الوطن الذي لا يماثله الحنين؛ لحظة أن وقف سيّدنا رسول الله في الحرورة بسوق مكة المباركة، وهو يشيّعها ويودّعها وقد أخرجه القوم منها، بقول يقطر محبّة ويتدفّق أسًى: «وَاَللَّهِ إنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ، وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إلَى اللَّهِ، وَلَوْلَا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ». إنه ذات الإحساس الآثر إن أخذت بالرواية الأخرى للحديث، سيتعمّق في داخلك معنى هذا الحبّ المجوهر في قلب خير البشر، «مَا أَطْيَبَكِ مِنْ بَلَدٍ وأَحبَّكِ إلَيَّ، وَلَوْلَا أَنَّ قَوْمِي أَخْرَجُونِي مِنْكِ مَا سَكَنْتُ غَيْرَكِ»، أرأيت حبًّا للوطن كهذا الحب من قلب النّبي الطاهر صلّى الله عليه وسلّم، لمكة المكرمة؟!
أما وقد عرفت هذا المعنى ووعيته حقّ وعيه فادخل مكّة المباركة من أيّ باب شئت، فكلّها حضن لزائر، وكهف للائذ، ومستروح لمضنك، اعلم أن ابن جبير الشاطبي قد لوّح لك ببشارة القدوم في قوله المترع شجنًا:
بدَت لي أَعلامُ بيت الهدى
بمكّةَ والنُّور بادٍ عَليه
فأحرمتُ شوقًا له بالهوى
وأهديتُ قَلبي هَديًا إليه
نعم.. قدّم فؤادك هديًا في مقام الحب، وردّد في ولَهِ المحب المتبتل بعروس المدائن وزهرة البلدان:
اذبحْ فُؤادي إنّني
بِـكَ يا حبيبُ متيمُ
أَيُضيءُ مصباحُ الهوى
إنْ لم يُضئْ فيه الدَّمُ
هل ثارت ثائرة شجنك، وعادت بك الذكرى إلى صباك، وقد أكرمك الله إكرام منعم ومغدق بأن ولدت وعشت طورًا من حياتك في هذه المدينة الطاهرة المباركة.
أتذكر كيف ينعقد النورُ جدائل من شفق قزحي في سماها، ويتلامع بعبق التاريخ المجوهر من «حرائها» إلى «بطحائها»؟ أتذكر كيف أنك كنت تزيح حجب الزمن، وتسقط مثاقيل الأيام عن مجلى خاطرك، لتعود مشخّصًا لمكة المكرمة في شاشة خاطرك كيف ما وسعك الخيال في لحظة الوحي المبارك..
هناك في غار حراء، شرقي المباركة المطهرة، على يسارك حين تقدُم من عرفات الخير، نعم من هناك انبثق النّور الأجلى، والهدي الأتم، والبشارة العظمى، فأيّ عظمة، وأي جلال، وأي بهاء..؟! أتعجب كيف احتمل الغار هذا الألق الوهاج، والنور المبراق الساطع! لقد قارب الشاعر عوض ابن الأحوص أن يفيك بمطلبك ولكن هيهات، فردّدْ على سمعك سلوة تعزية قوله:
فإنّي والذي حجّت قريش
محارمه وممّا جمعتْ حِراء
ألسنا أكرم الثقلين رحُلًا
وأعظمهم ببطن حراء نارا؟
إنك الآن تطوف ببيت الله الحرام سبعًا وتسعى سبعًا، وخاطرك يتنقّل في رحاب مكة القديمة، وتعود بكل أطياف الذكرى إلى مرابع الصبا، فإن تغيّرت في ناظريك المجالي، فذاكرتك ما زالت وفيّة، تعيد إليك رسم مكة كما عايشتها صبيًا، من أجيادها إلى الزاهر والشامية، عابرًا الشبيكة، وطائفًا بالمسفلة والعزيزية والمعابدة والقشاشية وجرول والمعلاة، و... إيهِ.. يا زمان إيه.. إنّك لا تكاد تمسك دمعك الآن وقد خفّ بك الحنين ونادمك، وحركتك الذكرى وشاغبتك، وطاف عليك ابن معصوم المدني بقوله:
فارقتُ مكّة والأقدارُ تُقحِمُني
ولي فؤادٌ بها ثاوٍ مَدى الزَّمنِ
فارقتُها لا رضىً منِّي وقد شهدَتْ
بذلك أملاكُ ذاك الحِجر والرُّكنِ
فارقتُها وبودِّي إذ فَرَقتُ بها
لو كان قد فارقتُ روحي بها بدني
ألا ما أعظم ولاة أمرنا في كلّ الحقب الزواهر، فقد أولوك يا مكّة من العناية ما تستحقين، ومحضوك من الاهتمام ما أنت به جديرة، وها أنت اليوم في زهو التطور تمضين، استجابة لمتطلبات الحياة المعاصرة، بذات ألقك الفاتن، ومهابتك الوضيئة، وتاريخك الذي غيّر وجه التاريخ منذ انبثاق النور من «حرائك» المهيب.. ها هو الحرم الشريف، في عهد سلمان الحزم والعزم، وولي عهده مهندس «الرؤية» الأغر، يمضيان بشرف الخدمة للحرمين الشريفين، على ذات المنوال المعظّم لهما، فيزداد الحرم المكّي الشريف رحابة بـ«الرواق السعودي»، خدمة للحجاج والمعتمرين والزوّار والمصلين.. فيا نعم الصنيع، ويا لهمة وضيئة تشرّفت فخرًا بخدمة الحرمين الشريفين..
فيا خير بقاع الأرض طرًّا، ويا ملتقى عباد الله والنسّاك، يا ملاذ الحائر ومستقر الوَجِل المسكين.. يا مكّة الخير.. نفارقك لا عَنْ قِلًى وموجدة؛ بل استجابة لنداء الكدح في سبل الحياة التي بعدت بنا عنك.. لكننا نعود إليك شوقًا، عودة الأبناء إلى أمهم الرؤوم العطوف، فنلقى الحنان في رباك، والأمن في ذراك، والراحة في ثراك.. نعود إليك لنغتسل من فيض نورك المنثال، ونرتوي من رحيق زمزمك العسّال، وسيكون حداء الحنين زميلنا دومًا في الأوبة والغياب،
أودعت في مِعلاتك والدي وأجدادي وواريت أخي أيمن ترابك.. فعسى أن يكون اللقاء بهم قريباً.