بعد مشاهدة أي فيلم، تكون حالتك النفسية مقياساً للرضا أو السخط لما شاهدت.
وأنا أشاهد فيلم (آخر سهرة في طريق ر) للمخرج محمود صباغ كنت منجذباً لكل كلمة، وكل صورة، والانشغال الذهني بما توفر لدي من معلومات عن الفيلم، ومخرجه، وممثليه. وأي عمل فني تحتاج إلى أرضية معرفية لتساعدك في الربط بين العناصر لكي تكون على دراية مبدئية عما تشاهد، أو تقرأ.
وفيلم (آخر سهرة في طريق ر) يخلق حالة تحدٍّ لصنع الثيمات السينمائية الخاصة بك، وتقريرياً: المخرج (محمود الصباغ) المثقف يضع اللبنات الرئيسة لما يأتي به من جهد إخراجي، في تجربة جديدة يسعى من خلالها إلى تثبيت مقدرته الإخراجية على أسس معرفية فنية، وبالتالي تجده يحاصرك بالحجج التي بنى عليها عمله السينمائي، والمشاهدة، أو القراءة تحمل عقداً ضمنياً بأن هناك مرسلاً، ومستقبلاً، وعلى المستقبل أن لا يخل بذلك العقد، وبداية العقد ما صرح به المخرج محمود صباغ أن فيلمه له ثيمات سينمائية خالصة تتمركز حول ثلاثة محاور، تبدأ بالليلة الطويلة، وهي ليلة مثل كل الليالي إلا أن تلك الليلة داخل الفيلم كانت طويلة بما اكتنفها من ارتباكات وتكون مخرجاتها وفق سريان أحداثها، وزمن تلك الليلة له إيقاع متسارع، ومتباطئ (داخل الفيلم وخارجه)، ليلة لا تكون بها النفس إلا ساخطة أو محبطة لتضاد الأحداث، وكان المعيار الزمني هو القلق الإنساني المتولد من المتغيرات العجلة التي قلبت المزاج العام (الفرقة)؛ فقصة الفيلم تقف في المنعطف لتجسيد (قلبة) المزاج تلك، فالمتغيرات وجهت الإقبال إلى جهة بعينها، وإهمال ما عداها، فكان تأثيرها على أبطال الفيلم هي المحاولة الجادة للرجوع إلى ما قبل المتغير.
تلك الحالات خلقت قلقاً وجودياً، ميزانه غير ثابت، وغالباً تكون كفة الرفض هي الطاغية، ذلك الرفض تناثر على وجوه الممثلين قولاً أو فعلاً.
وإذا كانت الثيمات الثلاث مترسخة في ذهنية المخرج محمود صباغ، فإنه أكدها ككاتب سيناريو للفيلم أيضاً.
هذه البداية أردتُ البدء بها للتأكيد بأن الفيلم مثبت بقناعات كتابية وإخراجية تستوجب التنبه لكل حركة، أو صورة، أو مشهد.
وبعيداً عن هذر الكلمات، نقف على الصورة التي استطاعت حفر خدود من المتعة السينمائية، تتسع تلك الحفرة كلما أوغلنا في الفيلم.
فيلم جاذب، جريء، صادم للقناعات الثابتة، وكذلك الغافلة عما يحدث في الزوايا، والجهات العميقة للمجتمع الذي دارت به أحداث القصة، وكان المتغير العاصف الذي تخلخل نفوس فرقة مهمتها إحياء ليالي السهر غناء، فإذا بهم على هامش الهامش، تتسع ليلتهم بدوران داخل سيارة، أمانهم وأمنياتهم داخلها، وخارجها تلعب بهم مصائر غير سعيدة، تدفعهم إلى ما يمكن ولا يمكن فعله.
بساطة الفكرة وإجادة تنفيذها، يجعلها تلامس كل أطياف المجتمع خالقة تياراً كهربائياً ينبه الغافلين أن ثمة أناساً يتم دهسهم تحت عجلات المتغير، أولئك أناس لا يجدون دفعاً للدهس سوى محاولة الصعود الاجتماعي من خلال النكتة أو بيع ما لا يباع.
كانت النكات، نكات غامقة، سواء باللفظ، أو الفعل.
كانت ليلة طويلة على متعهد سهرات وفرقته، وطول الليلة استطال مع المتغير الذي حرم نجم البحر (عبدالله البراق) ميزته بأنه ابناً لإحدى المغنيات الشعبيات، وكان يظن أنه امتداد لإرث غنائي أصيل، إلا أن إرثه لم يعد له من وجود، بينما هو ظل واثقاً من أهمية فرقته.. فتستطيل الليلة بالمفارقات المرسومة بإتقان، وكان الإتقان المضاف اختيار الممثلين بعناية، وللفيلم رنين جمالي تسرب من خلال الموروث الموسيقي، بأغانٍ عدة لها شجن، وأصالة ولا أظن أنها جاءت مصادفة، بل مستهدفة لخلق حالة الشجن، والتأكيد على الأصالة، وكان صوت الفنانة مروة سالم معبراً عن الحالتين.
ومروة سالم أجادت في أداء دورها ببراعة، وكأنها ربيبة السينما ألفة، وتجربة، إذ كان لها حضور تشكيلي (تتشكل فيها وفق الحالة الدرامية التي يكون عليه المشهد)، لها عفوية تميزت بها، وفي نقطة العفوية الأدائية امتاز بهذه الصفة كل الممثلين، ولا شك أن المخرج محمود صباغ كان خلف تلك العفوية، وهذا يؤكد إحاطته بنفسيات الممثلين ومنحهم الثقة لأن يتحرك كل واحد منهم على سجيته وفق الدور المرسوم له.
وترفع التحية للممثل عبدالله البراق الذي أثبت أن لديه موهبة عالية المستوى، وسيكون إحدى علامات التمثل لدينا..
أما مهندس الصوت سيلفر (سامي حنفي) -رحمه الله- كان فاكهة الفيلم ظرفاً، وبموته خسرنا موهبة فذة غادرت السينما قبل أن تمنحها وسام الإجادة.
لمحمود صباغ تجويد إخراجي بإشراك شاب ضرير (رضوان جفري) كشخصية رئيسة في الفيلم.. وأعتقد أن أمل الحربي سوف تضع لنفسها مكانة في السينما، فلديها وجه جاذب للكاميرا، ومع تضاءل مشاهد البعض كالشيماء الطيب، وعبدالله القبيع إلا أنهم وضعوا في مناطق تشير إليهم كممثلين قادرين على مواصلة حضورهم التمثيلي، ومشاركة المخرج العربي الكبير خيري بشارة يعطي للفيلم قيمة فنية عالية، فبحجم خيري إن كان حاضراً أو ضيفاً شرفياً، لهو الشرف للفيلم الذي يظهر فيه.
ومع منتهى هذه المقالة أقول إن فيلم (آخر سهرة في طريق ر) فيلم له بصمة إبداع تستوجب الوقف عندها احتراماً لما بذل في جوانبه: (الكتابية، والإخراجية، والتمثيلية)..