في مقال لأنغوس ديتون أستاذ الاقتصاد في كلية الشؤون العامة والدولية والاقتصاد في جامعة برينستون، والحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد 2015 بعنوان «إعادة النظر في رؤيتنا إلى الاقتصاد» قال بصريح العبارة في ثنايا المقال «لقد أسهمنا في حدوث الأزمة المالية في العام 2008 من خلال الإيمان المفرط والطموح بكفاءة الأسواق، خاصة الأسواق المالية التي كان فهمنا لبنيتها وانعكاساتها أقل مما كنا نتصور»، شدتني تلك العبارة وخاصة في خضم الأمواج العاتية التي تعصف بالأسواق العالمية وخاصة المالية منها ما بين وقت وآخر، وأدخلتني في دهاليز تساؤلات حول حقيقة كفاءة الأسواق المالية. الجدير بالذكر، أن تلك الأزمات أثبتت أن الأسواق المالية يمكن أن تواجه اضطرابات كبيرة وتظهر إخفاقات نظامية لا يمكن استيعابها بشكل كافٍ من خلال فرضية كفاءة السوق وكأن فحوى تلك التساؤلات بمثابة انقلاب على مفهوم آلية اليد الخفية التي تبناها آدم سمث الأب الروحي لعلم الاقتصاد، الذي يرى أن الأسواق تميل إلى التنظيم الذاتي وتحقيق التخصيص الأمثل للموارد دون تخطيط مركزي بمعنى أوضح؛ «دعوا الأسواق تصلح ذاتها بذاتها».
العديد من النظريات الاقتصادية التي تدعم مفهوم كفاءة الأسواق المالية، حيث توفر هذه النظريات نظرة للآليات التي من خلالها تقوم الأسواق بدمج المعلومات بكفاءة وتحديد الأسعار. واحدة من تلك النظريات نظرية السوق الكفاءة التي طورها الاقتصادي يوجين فاما في ستينيات القرن الماضي، وتنص على أن الأسواق المالية تتسم بالكفاءة في عكس جميع المعلومات المتاحة في أسعار الأصول. ويجادل بأنه من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، التفوق باستمرار على السوق من خلال التداول على المعلومات المتاحة، حيث إن الأسعار تتضمن بالفعل تلك المعلومات. نظرية التوقعات العقلانية هي الأخرى تدعم كفاءة السوق والتي تفترض أن الأفراد يشكلون توقعاتهم حول المستقبل بناء على جميع المعلومات المتاحة، بما في ذلك البيانات الاقتصادية وأسعار السوق. ووفقاً لهذه النظرية، فإن المشاركين في السوق عقلانيون ويقدمون توقعات غير متحيزة. وبناء على ذلك، فإن السوق الكفاءة، تعكس أسعار هذه التوقعات العقلانية، وتتضمن معلومات حول الأحداث المستقبلية والظروف الاقتصادية.
وعلى النقيض من ذلك، تعد صحة نظريات كفاءة السوق المالية موضوعاً مستمراً للنقاش ومثار جدل بين العديد من الاقتصاديين، ومن المؤكد أن حدوث الأزمات يمكن أن يشكل تحدياً لبعض جوانب تلك النظريات. يمكن للأزمات، مثل انهيار الأسواق المالية أو الانكماش الاقتصادي، أن تكشف القيود ونقاط الضعف في فرضية كفاءة السوق والنظريات ذات الصلة. فعلى سبيل المثال؛ غالباً ما تفترض نظريات كفاءة السوق أن المشاركين في السوق عقلانيون ويتخذون القرارات بناء على جميع المعلومات المتاحة. ومع ذلك، في أوقات الأزمات، يمكن أن تلعب التحيزات السلوكية دوراً مهماً، مما يؤدي إلى سلوك غير عقلاني وانحرافات عن عملية صنع القرار العقلاني. ووفقاً لتلك الرؤية، فإنه من الممكن أن تؤدي هذه التحيزات، مثل عقلية القطيع، والخوف، والمبالغة في ردود الفعل، إلى عدم كفاءة السوق وخلق الفرص للأصول ذات الأسعار الخاطئة.
أمر آخر، تعتمد كفاءة الأسواق على افتراض أن جميع المعلومات ذات الصلة متاحة بشكل متساوٍ ومجاني لجميع المشاركين في السوق، ولكن الحقيقية أن خلال الأزمات، يمكن أن يصبح عدم تناسق المعلومات أكثر وضوحاً، ونتيجة لذلك، يمكن أن تؤدي حالة عدم اليقين والافتقار إلى الشفافية إلى إعاقة دمج المعلومات بكفاءة في الأسعار، مما قد يمكّن البعض من الوصول إلى معلومات مميزة أو غير عامة وهذا يمكن أن يؤدي إلى عدم كفاءة السوق وتشويه الأسعار. وحتى تتضح الرؤية بشكل أكبر، تفترض نظريات كفاءة الأسواق في كثير من الأحيان وجود أسواق خالية من الاحتكاك مع انخفاض تكاليف المعاملات والسيولة المثالية، ولكن الحقيقة خلال الأزمات تزيد تلك الاحتكاكات في السوق بشكل كبير. يمكن أن تجف السيولة، ويمكن أن ترتفع تكاليف المعاملات، ويمكن أن تنخفض أحجام التداول بسبب زيادة النفور من المخاطرة. ويمكن لهذه الاحتكاكات أن تعيق الأداء الفعّال للأسواق وتعيق التكيف السريع للأسعار مع المعلومات الجديدة.
في المجمل، في حين أن كفاءة الأسواق المالية أمر مرغوب فيه من منظور اقتصادي، فمن المهم أن نعترف بأن تحقيق الكفاءة الكاملة أمر غير مرجح في ظروف العالم الحقيقي. ومن الممكن أن تؤثر عيوب السوق، وعدم تناسق المعلومات، والتحيزات السلوكية، والعوامل التنظيمية على كفاءة السوق المالية. لا ننكر أن هناك محاولات من صنّاع السياسات والجهات التنظيمية إلى خلق بيئة تشجع الأسواق العادلة والفعّالة لدعم النمو الاقتصادي والاستقرار.