أكد المفكر المغربي الدكتور كمال عبداللطيف أن التحديث السياسي، أفق لترسيخ ثقافة الحوار، كون تنامي إشكال إسلام التطرف في واقعنا مطالب بالمواجهة بالتنوير والنقد، إذ لا يمكن أن تُحَوِّل جماعات معينة التجربة الروحية في التاريخ الإسلامي إلى تجربة متحجرة مغلقة، ونظام نصي جامد.
ويرى عبداللطيف أن التجربة الروحية في الإسلام تتجاوز الأحكام النمطية المحفوظة في تراث لا يعدو أن يكون جزءاً من تاريخ لم ينته، وما عودتنا إلى المحفوظات التقليدية بالصورة التي تتمظهر بها اليوم في ثقافتنا وفي مجالنا التربوي والسياسي، إلا دليل عدم قدرتنا على إنجاز ما يسعف بتطوير نظرتنا للدين والثقافة والسياسة في مجتمعاتنا.
وذهب إلى أن فشل مشاريع الإصلاح الديني والثقافي والإصلاح التربوي في فكرنا، يعتبر من بين العوامل التي كرّست وتكرّس مثل هذه العودات العنيفة إلى المعطيات العتيقة في تراثنا وثقافتنا، كوننا لم نتمكن من ترسيخ قيم الاجتهاد، ولم نبنِ الفكر الإسلامي المنفتح والقادر على تركيب تصورات جديدة للعالم تتيح لنا استيعاب مقدمات وأصول الحياة الجديدة في عصرنا.
وعدّ أخطر ما فعلته التيارات المعادية لقيم العصر في فكرنا المعاصر، مسعاها الرامي إلى استبعاد إمكانية تصالح ذواتنا التاريخية مع العالم، مستندة في ذلك إلى تصورات ومبادئ لا علاقة بينها وبين الإسلام في جدليته التاريخية الحية، ما شكّل مهمازاً للحركة التاريخية المنتصرة لقيم الأزمنة التي واكبته خلال عصورنا الوسطى.
ورجّح كفة استمرار معركة التنوير في فكرنا العربي وفي واقعنا السياسي بحكم تعقد مجال التيارات التي تنسب نفسها لحركة الإسلام السياسي، والإسلام الخلقي، وإسلام الزوايا، وإسلام الأنظمة السياسية السائدة في أغلب الأقطار العربية، ثم الإسلام المتشبّع بأهمية الفكر النقدي والرؤية التاريخية، والإسلام الشعبي الطقوسي والمظهري، لنجد أنفسنا وسط شبكة معقدة من التصورات والاختيارات والعقائد والممارسات، تحتاج إلى كثير من الفرز والضبط والترتيب لرسم ملامح التقارب والتباعد والاختلاط الحاصل في بنيتها المركبة، وهذه مسؤولية تيارات فكر التنوير وثقافة التنوير في ثقافتنا المعاصرة.
ولفت إلى أن تعولم الإسلام السياسي واستخدامه المكثَّف للوسائط الاجتماعية، يشيع لغة لا ضابط لأبعادها، بحيث تختلط الوقائع والمعطيات والمواقف، ويتحول البشر إلى أحزمة من المتفجرات متطايرة الشرر في جهات عديدة من المعمورة، ولا يظلّ الإسلام عنواناً للسلام والتسامح والعقل، بل يصبح في تصورات هذه التيارات آلة حربية متعددة الرؤوس. وهو ما يزيد حاجتنا الفعلية لقيم التنوير وسماحة الروح وأخلاق العقل ولغة التاريخ وثقافة الحوار.
وأضاف: لا يتعلق الأمر في موضوع دفاعنا عن قيم التنوير في العالم العربي، بعملية نسخ ولا نقل لتجربة تمّت في التاريخ، فالأنوار لا تزال اليوم مطلباً كونياً. وقيم عصر الأنوار التي نشأت في سياق تاريخي محدد في القرنين السابع عشر والثامن عشر في أوروبا، تتعرض اليوم لامتحانات عميقة في سياق تاريخها المحلي وسياقات تاريخها الكوني، وذلك بحكم الطابع العام لمبادئها، وبحكم تشابه تجارب البشر في التاريخ، وتشابه عوالمهم الروحية والمادية وعوالمهم التاريخية في كثير من مظاهرها وتجلياتها، وحاجتنا إلى التنوير مرتبطة بأسئلة واقعنا، كما ترتبط بسؤال الاجتهاد في فكرنا وفي كيفيات تعاملنا مع قيمنا الروحية. وإذا كنا نعرف أنّ المبدأ الأكبر الذي وجّه ثقافة الأنوار يتمثل في الدفاع عن عدم قصور الإنسان، والسعي لإبراز قدرته على تعقل ذاته ومصيره؛ بهدف فك مغالق ومجاهل الكون والحياة، فإنه لا يمكن لأحد أن يجادل في أهمية هذا المبدأ، الذي يمنح العقل البشري مكان الصدارة في العالم، ويمنح الإنسان مسؤولية صناعة حاضره ومستقبله. وتاريخ البشرية يقدّم الدليل الأكبر على قيمة هذا المبدأ، ولهذا السبب نحن معنيون بإشاعة القيم التي تتضمن وتستوعب الاعتزاز بالإنسان والإعلاء من مكانته ورسالته في الوجود.