إبان انتهاء الحرب العالمية الثانية ظهر في هذا العالم قطبان رئيسان هما الولايات المتحدة الأمريكية والقطب الآخر الاتحاد السوفيتي الذي شملت حدوده أغلب مساحة منطقة أوراسيا. وكان يتكون من 15 جمهورية ذات حكم ذاتي. ولقد كان الطرفان السوفيتي والأمريكان في أثناء الحرب العالمية الثانية في معسكر واحد ضد النازية، غير أن الحال انقلب من تحالف إلى صراع سياسي ودبلوماسي واقتصادي بين (الاتحاد السوفيتي) و(الولايات المتحدة) في الحقبة ما بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية واستمر الصراع إلى نصف قرن تقريبًا منذ عام 1945 وحتى عام 1990، وقد كانت كل منهما تمثل قوة عسكرية جبارة في الوقت الذي غابت فيه أوروبا بعد أن كانت تمثل النقطة المركزية التي يتجمع حولها النظام الدولي بِرُمَّته، تاركة للعملاقين التنافس على قيادة العالم وفرض أيديولوجيتها الاقتصادية المختلفة على العالم، ففي الوقت الذي كان فيه اقتصاد (الولايات المتحدة) رأسمالي، كان (الاتحاد السوفيتي) يسعى لنشر الشيوعية في كافة المناطق التي تقع تحت نفوذه.
وقد تنبأ المفكر والدبلوماسي الأمريكي وخبير العلاقات الدولية جورج كينان انهيار الاتحاد السوفيتي وتوقع أن الشيوعية الروسية تتجه إلى التفكك النهائي، بسبب تجاهلها للتعبير الفردي، والروحانية، والتنوع البشري. وبالنسبة إلى الرأسمالية الغربية رأى كينان أنها تتسم بالإنتاج المفرط، والمادية الفجة، والفردية المدمرة، ولم يثق كينان بـ «فوضى» الديمقراطية في بلاده، وتطلع إلى حكم «أقلية حازمة وذكية».
إن توقع انهيار الاتحاد السوفيتي كان يقوم على أسباب موضوعية وليس على التخمين والظن. ومن أهم أسباب الانهيار:
أولا: عدم وجود اقتصاد حيوي بالرغم من التقدم العلمي الهائل الذي حققه الاتحاد السوفيتي والسبق الكبير في مجالات عدة مثل الفضاء والنووية، حيث كان الاتحاد السوفيتي الأول عالمياً في قطاع الطاقة بإنتاج 20% من النفط العالمي، والمرتبة الثالثة في إنتاج الفحم. وقفز نصيب الصناعة في الإنتاج الوطني إلى ما يزيد على 70% وأصبحت حصة الصناعات الثقيلة 74% من قطاع الصناعة الكلي. وقد كان الاتحاد السوفيتي أكثر تطوراً علمياً عن أمريكا في بعض جوانب التقنية العسكرية، إلا أن تخلف السوفيتي عن الركب في إنتاج الصناعات الخفيفة والسلع الاستهلاكية المعمرة، ومعظمها بسبب عدم قدرة لجنة التخطيط الاقتصادي، وتوقع الطلب على هذه المنتجات، حيث كانت الدولة تحدد عدد هذه الأشياء التي يحتاجها كل مواطن، وكم يجب أن تكون كلفة كل شيء وكم يجب أن يدفع للناس ثمناً لها لشراء سيارة، كان على المواطن أن يكون على قائمة الانتظار لسنوات؛ لشراء معطف أو زوج من الأحذية الشتوية غالباً ما كان عليه الانتظار لساعات ليجد أن مقاسه قد نفد من المخزن، وخلال السنوات العشرين الأخيرة من وجودها، زاد الفساد المتفشي والركود الاجتماعي والاقتصادي.
ثانياً: وجود مجتمع حيوي وديناميكي.
«بلغ مستوى معيشة مواطني الاتحاد السوفيتي بحلول عام 1953، أي لحظة وفاة ستالين، حداً موازياً وأحياناً متفوقاً على مستوى نظرائهم الغربيين. وكان أكثر السكان حظاً في هذا المجال هم موظفو مؤسسات الصناعات الدفاعية، ومكاتب التصميم والهندسة، والمؤسسات العلمية، وأساتذة الجامعات، والأطباء، والفنانون، والمتطوعون في الجيش، وفقاً لدراسات المكتب المركزي للإحصاء، ومنظمات المجتمع المدني». كل التماسك المجتمعي انهار نتيجة الإجراءات التي قام بها جورباتشوف والتي قادت إلى تفكيك البناء الإمبراطوري وانهيار النظام الشيوعي، بإضعاف التلاحم الشمولي. ثم إن ثورة الاتصالات العالمية كشفت حقيقة تدني مستويات الرفاهية ونوعية الحياة لسكانه مقارنة بالدول الصناعية الرأسمالية. ومع الجلاسنوست أدى البعث القومي إلى تفكك ما يسمى بالأمة السوفيتية، وتدهورت هيبة الدولة الشمولية، وتفكك الجهازان السياسي والأمني للدولة، أضف إلى هذا، تراجع النفوذ السوفيتي السيادي والأيديولوجي عالمياً.
لقد استفادت الصين من أخطاء السوفيت فعملت على خلق اقتصاد حيوي وقوي ومجتمع حيوي ومتماسك، وفي السنوات الـ 40 الماضية، اعتمدت الصين سلسلة من الإصلاحات الاقتصادية كان من شأنها فتح الطرق التجارية والسماح بالاستثمارات، وهي خطوات أدت في نهاية المطاف إلى إخراج الملايين من دائرة الفقر. وأطلقت القيادة الصينية حملة بهدف القضاء على الفقر بشكل نهائي. واستثمرت الحكومة وأوساط اجتماعية مختلفة جهوداً جبارة وموارد مالية هائلة في المناطق النائية والفقيرة وتحسنت الظروف المعيشية لعدد كبير من أهالي الريف، فخلال العقود الأربعين الماضية، تخلص ما يزيد على 800 مليون نسمة من الفقر بما يشكّل 70% من نتائج الحملة العالمية لمحاربة الفقر. وقد اعتمدت الصين أسلوب الإصلاح التدريجي والنأي عن أسلوب الصدمة وإلى النظرة الموضوعية للتراث الصيني وللنظريات الماركسية، وربط المبادئ الماركسية بواقع الظروف الصينية، والاستفادة من تجارب جميع الشعوب، وعلى ضرورة إنهاء الخلافات العقائدية والجدل حول الاشتراكية والرأسمالية والذي كان محتدماً في أوساط الحزب والمجتمع.
إن الاقتصاد الحيوي والمجتمع الحيوي الديناميكي هما الركيزتان الأساسيتان للازدهار والتنمية.