في الكثير من دول العالم تتنافس الأحزاب الرسمية سعياً للوصول إلى رئاسة الدولة، وهذا أمر مألوف حتى في بعض الدول الغربية كالولايات المتحدة والمملكة المتحدة والكثير من الدول الأوروبية، لكن في لبنان يسيطر حزب الله على المشهد السياسي بفضل آلته العسكرية ومليشياته التي تفرض سطوتها عنوة على الشارع اللبناني، ومن المؤكد أنه يصعب تماماً أن يكون لكل حزب سياسي مليشياته الخاصة، والتي ستتقاتل -بالضرورة- مع بعضها البعض، وهو ما حدث بالفعل وأوقع لبنان ضحية لحرب أهلية حصدت أرواح عشرات الآلاف من الشعب اللبناني، كما دمرت بنيته التحتية بشكل كامل مما أوقع الكثير من أبنائه فريسة المرض والفقر.
يزخر التاريخ بأمثلة للعديد من الأحزاب السياسية التي سعت للسطو على مؤسسات الدولة من خلال تكوين مليشيا مسلحة خاصة بها تفرض سيطرة الحزب على الشارع، كما فعل الديكتاتور موسوليني عندما شكّل مليشيات «القمصان السود» التي سيطرت على الشارع الإيطالي بعد ارتكابها جرائم ترهيبية بحق الإيطاليين إلى أن مكّنت حزبه الفاشي من الوصول للسلطة، وكما فعل حزب البعث البائد في العراق عندما شكّل ما يسمى بجهاز «حنين» العسكري الذي كان الأداة الرئيسية التي أوصلت الحزب للسلطة العام 1968، والجدير بالذكر أن الشعوب كانت أول ضحية لمثل هذه الأحزاب التي مثّلت صفحة سوداء في تاريخ العالم.
على الرغم من أن اتفاق الطائف الذي انطلق برعاية سعودية كان حدثاً تاريخياً أفضى إلى إنهاء الحرب اللبنانية وتفكيك المليشيات العسكرية الحزبية وتكوين جيش وطني موحد؛ إلا أن حزب الله لا يزال يصر على تنفيذ أجندته الخاصة والاحتفاظ بالعديد من الفصائل العسكرية المسخرة لتحقيق أهداف خارجية أكثر من كونها أداة لحماية لبنان نفسه، ولبنان بطبيعته دولة ذات موارد مالية محدودة، وهو الأمر الذي تفاقم في ظل الاضطرابات التي تشهدها البلاد وعزوف السياح عن الساحة اللبنانية لدواعٍ أمنية، ولم يخجل حسن نصر الله في أحد تصريحاته السابقة من الاعتراف علناً بأن هناك دولاً أخرى تنفق على ترسانته العسكرية وما يتبعها من تكاليف أخرى يتطلبها وجود حزبه.
من حق كافة الدول أن تقاوم احتلال أي بقعة من أراضيها، ولكن لا يجب أن تؤدي المقاومة إلى اندلاع حرب إبادة شاملة خاصة لو يتم خوضها مع عدو أحمق مثل إسرائيل، كما ينبغي أن تختص المقاومة بشؤونها الداخلية؛ فلا تتعدى حدودها لحماية أنظمة أخرى كما يفعل حزب الله، فلو سخّر حزب الله سلاحه وعتاده لتحرير الجزء المحتل من مزارع شبعا لوجد ترحيباً دولياً وعربياً، لكن أن يتحول إلى أداة لتحقيق أهداف أجندات خارجية فإن ذلك يمثل انتهاكاً صارخاً لاستقلالية بلاده.
قبل أيام كنت أتابع بعض الأحداث على الشبكة العنكبوتية فشدني خبر استقبال حسن نصر الله في أحد مخابئه بلبنان لأحد زعماء حماس، ويربط حسن نصر الله وقف العمليات العسكرية في لبنان بوقف الانتهاكات في غزة، ومثار استغرابي هو أن تصريح نصر الله يبدو وكأنه هو من يحدد مستقبل لبنان السياسي بل وحتى العسكري، وهو من يقرر إعلان الحرب وتوقفها، وهذا التصريح وأشباهه يعد عرفاً سياسياً شاذاً؛ فلم تجر العادة بأن يناقش حزب ما علانية مستقبل دولة أخرى وسط تجاهل تام لمؤسسات الدولة النظامية وأجهزتها السيادية السياسية والعسكرية.
يبدو الوضع في لبنان -بسبب تدخلات حزب الله- وكأنه بلا حل، وهذا ليس اجتهاداً أو تخميناً من الكاتب، فكرسي الرئاسة لا يزال شاغراً منذ قرابة السنتين، وهو الأمر الذي يعكس عبث حزب الله بكافة مناحي الحياة السياسية في لبنان، ولعله من السخرية بمكان أن يناقش نصر الله المستقبل السياسي لقطاع غزة ويتجاهل تماماً المستقبل السياسي للبنان، والذي لم يعد متحملاً المزيد من التوترات الإقليمية.
منذ أحداث السابع عشر من أكتوبر الماضي سعت المملكة لإيقاف الحرب التي تشنها إسرائيل ضد الفلسطينيين في قطاع غزة والضفة الغربية أيضاً، ومن المؤكد أن إعلان الدولة الفلسطينية هو أمنية كل المسلمين، غير أن أي مغامرات عسكرية غير محسوبة ستؤدي لامحالة إلى إشعال فتيل حرب إقليمية سيمتد لهيبها خارج الأراضي الفلسطينية، ومن المؤكد أن ذلك سيفتح المجال لقوى أخرى للتدخل في هذه الحرب، فقبل أسابيع أعلن وزير الدفاع الإسرائيلي أن قواته قادرة على إعادة لبنان إلى العصر الحجري، ومن المؤكد أن تدخل إسرائيل في لبنان الآن سيعيد إلى الأذهان تغلغل جيشها هناك في ثمانينات القرن الماضي، وهو ما أضعف الحكومة اللبنانية وقتذاك وأرهق مؤسستها العسكرية، مما سمح بانتشار المليشيات المسلحة التي جعلت من الأراضي اللبنانية مسرحاً للصراع، الذي دفع ثمنه الشعب اللبناني وليس أمراء الحرب.
كلمة أخيرة: من لا خير له في وطنه لا خير له في أي بقعة في العالم.