يسرني، من حين لآخر، الابتعاد عن «السياسة»، رغم صعوبة ذلك بالنسبة لي، وإيماني بأن السياسة تدخل، بشكل أو آخر، في كل شأن عام. ومقال هذا الأسبوع بعيد -إلى حد ما- عن السياسة وأوجاعها. إنه عن «كبار السن» (1senior Citizens) المتقاعدين، بصفة عامة، سواء في بلادنا، أو غيرها. والذي دفعني للتطرق إلى هذا الموضوع، والتطفل على المختصين في مجال الاجتماع، هو كتاب: تود هنري، مت فارغاً (الجبيل، السعودية: صفحة سبعة للنشر والتوزيع، 2019م، ترجمة: عمر فايد) الذي قرأته مؤخراً، ووجدت أن موضوعه يستحق الإشارة، والإشادة.
وبما أن «الموت» أنواع، آخرها الموت الطبيعي النهائي، فهناك ما يمكن أن نسميه بـ «الموت الاجتماعي». إذ إن الإنسان يظل نشطاً، متأثراً، ومؤثراً، حتى يأتي موته الطبيعي، أو موته اجتماعياً... حيث يمسي خاملاً، وغير مؤثر، وعاجزاً عن التفاعل مع من حوله، متوارياً، وكأنه مات فعلاً، موتاً طبيعياً.
****
وفي أغلب الحالات، يتقاعد الفرد من العمل عند بلوغه الستين من العمر. هناك من يعملون مدى الحياة، وهناك من «تمدد» خدماتهم، ولكنهم قلة. بناء على ذلك، يمكن تقسيم حياة الإنسان الراشد العاقل، بصفة عامة، إلى قسمين: حياته قبل التقاعد، ثم حياته بعد التقاعد. وكثير من المتقاعدين يمارسون عملاً جديداً (أو خاصاً) ويبدعون فيه. وكثيراً ما تكون إنتاجيتهم في هذه الأعمال مرتفعة عن السابق.
ثم يقترب هذا الإنسان من السبعينات. وغالباً ما تبدأ الأمراض في مداهمته في هذا السن، أو بعده بقليل. فيضطر لتخصيص جزء من وقته، وماله، وجهده، طلباً للرعاية الصحية اللازمة. وتبدأ رحلته فيما بين المستشفيات والأطباء والأدوية. ويقترب من النهاية، والانتقال إلى العالم الآخر. والحكمة التقليدية تقتضي أن يعيش الإنسان الراشد العاقل مؤمناً، قانعاً، وطموحاً. فيعتني بصحته أولاً، ويخطط لمرحلتي حياته، خاصة مرحلة ما بعد التقاعد، التي قد تمتد 40 عاماً؛ بسبب تقدم الرعاية الصحية، ويلقى وجه ربه وهو مرتاح الضمير.
****
والإنسان كائن اجتماعي بطبعه، له أقارب ومعارف، غالباً ما يرتاح للاجتماع بهم، أو ببعضهم. ولكنه فيما بعد الستين من عمره غالباً ما يجد نفسه أقل قدرة على ممارسة حياته الاجتماعية، خاصة لقاءاته مع من يحب، زائراً، أو مزاراً. وتدريجياً، غالباً ما يجد نفسه مضطراً لملازمة بيته، منشغلاً بصحته، وأبنائه وأحفاده، إن وجدوا. ويتوارى عن الأنظار... وينتهي به الأمر إلى المعاناة مما يمكن تسميته بـ«الموت الاجتماعي». ويتوقف معظم التواصل بينه وبين معارفه. ويصبح أقرانه، أو بعضهم مثله... ميتين اجتماعياً. وينقرض جيل، ويأتي جيل جديد. هكذا هي الحياة، أينما كان الإنسان.
****
ويثير هذا الأمر الكثير من الشجون والقضايا، ومنها ما ذكر في كتاب تود هنري «مت فارغاً»، وهو من أهم الكتب التي تحمل نصائح ثمينة للعامة، وللأموات الاجتماعيين، بصفة أخص. إذ يقول إن أي إنسان راشد عاقل يحمل بين أضلعه، وفي ذهنه، ثروة معرفية ثمينة، من الحكمة والعلم والمعرفة، وأن هذه الثروة ستدفن معه، عندما يأتي أجله، إن لم ينشرها. وهذا يعتبر -في رأيه- خسارة فادحة للمجتمع الذي ينتمي إليه. ويرى أن أغلب الناس لا يكترث بنشر ما لديه، قبل الموت الطبيعي. لذا، فإن القبور غالباً ما تحتوي على الكم الأكبر من المعرفة والعلم والثقافة (المدفونة مع أصحابها).
إن من الحكمة، ومحبة الخير، أن «ينقل» كل إنسان، وخاصة ذي المعرفة والعلم، ما لديه، لمن حوله.. قبل رحيله، ودفن هذه المعلومات معه، دون استفادة الآخرين منها. وذلك كي «يموت فارغاً»...من معظم ما لديه، ليستفيد من معرفته الآخرون من الأحياء. وذلك يشمل «الساسة» (من تولى مناصب في السلطات العليا الثلاث) وأيضاً السفراء. فهؤلاء لديهم الكثير ليقولوه عن تجربتهم العملية. وقد يكشفون أسراراً معينة، تسهم في فهم ما يجري في بعض الديار. إن مؤلف هذا الكتاب يقدم نصيحة مخلصة، وحكمة رشيدة، يوجهها لمن لديه ما قد يفيد. وهو يدرك، بالطبع، أن هناك أناساً ليس لديهم الكثير مما قد يفيد. لذلك، هو يخاطب أصحاب المعرفة، بصفة عامة، ويحضهم على أن يموتوا، قدر الإمكان، فارغين...
****
وهذا الموضوع مرتبط بمسائل اجتماعية واقتصادية وإنسانية وحضارية واضحة شتى، منها: مدى استفادة المجتمع من أبنائه الذين تقاعدوا، بعد بلوغهم سن التقاعد. فمعظم هؤلاء أفنوا شبابهم في خدمة أوطانهم، كل في مجال اختصاصه. وهم يستحقون أن يكرموا بعد تقاعدهم، وتتاح لمن يرغب في العمل منهم، ويقدر عليه، الفرصة لمواصلة خدمته لوطنه ومجتمعه، ولو في مجال الاستشارة. مع ضرورة وضع آلية لهذه الاستفادة.
كما يجب أن تصدر القوانين والنظم التي تراعي هذه الفئة من المجتمع، وتمنحها بعض «المزايا» التي تسهم في تخفيف معاناة الحياة، مثل الأولوية في العلاج، وما إلى ذلك. وفي بلادنا العزيزة، أخبرني صديقي الأستاذ سليمان الزايدي، مدير التعليم بمنطقة مكة المكرمة، وعضو مجلس الشورى سابقاً، ورئيس جمعية حقوق الإنسان بمكة المكرمة، أنه قد صدر، عام 1443هـ، «نظام حقوق كبير السن ورعايته». كما صدرت اللائحة التنفيذية لهذا النظام، الذي تنص المادة (7) منه على هدف النظام الرئيس، وهو:
توفير الحاجات الضرورية اللازمة لكبير السن (60 سنة، أو أكثر) من سكن، ومأكل، وملبس، وعناية صحية وجسدية، ونفسية، واجتماعية، وترويحية. وقد أرسل إلي النظام، ولائحته التنفيذية. وحبذا لو يتضمن آلية لنشر نتاج هؤلاء العلمي والمعرفي، ومساعدتهم في نشره، وتعميمه، قبل رحيلهم الأبدي. نسأل الله أن يحفظ مواطنينا «الكبار» و«الصغار»، ويديم عليهم الصحة والعافية، وينفع بهم، وبخبراتهم، ويرزقنا جميعاً حسن الخاتمة.