Europe Россия Внешние малые острова США Китай Объединённые Арабские Эмираты Корея Индия

محمد الضبع لـ «عكاظ»: ترجمت عشرين كتاباً بوعٍد بسيط !

1 شهر منذ 3

من طفل يحلم برسالة من (مجلة ماجد) إلى كاتب ومترجم لآداب العالم. بهذه المقدمة يمكن اختصار تجربة الأديب السعودي محمد الضبع؛ الذي أحبّ الكتابة وأخلص لها، فكتب وترجم واشتغل على العديد من المبادرات، كمجتمع مئة يوم من الكتابة، إضافة إلى إصداراته في الترجمة التي تجاوزت العشرين كتاباً.. في هذا الحوار العديد من الموضوعات المهمّة في هذه التجربة الأدبية المختلفة، فإليه:

• دعنا نبدأ بمحمد الإنسان، حدثنا عن ولادتك، وطفولتك، وعلاقتك بالأدب.

•• أتذكر سنواتي الأولى في المدرسة والكتابة حاضرة في محيطي. قراءة مجلّة ماجد ومراسلتها، ومشاركتي في صفحة أصدقاء ماجد كانت أولى تجاربي مع قراءة القصص وكتابة الرسائل. كنت أذهب إلى مكتب البريد السعودي في حي المطار في مدينة جازان الذي يقع أمام منزلنا مباشرة على بُعد خطوات عدة؛ لأشتري طوابع البريد وأضع رسالتي التي كتبتها لأسرة تحرير ماجد، وأرفق معها صورتي في الظرف أملاً في الحصول على رد من المجلة.

في يوم من الأيام وأنا في الصف الثالث من المرحلة الابتدائية، دعاني مدير المدرسة إلى مكتبه، فاعتقدت أنني سأُعاقب على أمرٍ ما قمت به مع بقية زملاء الفصل، فلم يكن الاستدعاء إلى مكتب مدير المدرسة آنذاك أمراً مطمئناً. أخبرني المدير بوصول رسالة بريدية لي من دولة الإمارات العربية المتحدة، وتحديداً من مجلة ماجد. أتذكر فرحتي وحماستي لسماع الخبر، لم تصلني أي رسالة بريد قبل تلك اللحظة، فما بالك إن كانت الرسالة من مجلتك المفضلة. ناولني المدير الرسالة وفتحتها لأجد فيها بطاقة مندوب ماجد وقد كُتب عليها: «حامل هذه البطاقة مندوب مجلة ماجد يُرجى تسهيل مهمّته»، وقال لي المدير: من الآن فصاعداً سأوجّه جميع معلمي المدرسة بتسهيل مهمّتك. كانت سعادتي لا تُوصف بهذه البطاقة، وما زلت أحتفظ بها إلى اليوم. بدأت بعدها بالمشاركة في الإذاعة المدرسيّة باستمرار والقيام بأعمالي التي ظننت أن عليّ الالتزام بها بعد أن أصبحت مندوباً لمجلة ماجد. لم أفهم بالضبط ما مهمّتي لأن مجلة ماجد لم توضح هذه المهمّة، ربما بإمكانهم إرفاق رسالة بقائمة المهمات حتى يتمكن طفل في المرحلة الابتدائية من فهمها والعمل على إنجازها.

أما عن علاقتي بالأدب، فقراءة الشعر العربي القديم وكتب التراث كانت جزءاً مهماً من مرحلة نشأتي. كنت أحفظ القصائد وأرددها وألقيها في الإذاعة المدرسيّة كل أسبوع. والدي ووالدتي ساهما بالاهتمام بهذا الجانب وتوفير الكتب، وأخذي إلى المكتبة باستمرار لاقتناء المزيد من الكتب.

ومن دهشتي وإعجابي بالأدب العربي القديم بدأت رغبتي في المحاكاة والتجريب. كنت أسأل نفسي: ماذا لو حاولت إعادة كتابة القصائد التي أحبها على طريقتي؟ فبدأت بمعارضة قصائد الشعر القديم وهكذا علّمت نفسي الإيقاع والعروض وضبط القوافي في المرحلة المتوسّطة. كنت أعارض القصائد الجاهلية وأحاكيها للتدرّب على أدوات الشعر واللغة. إحدى القصائد التي حاكيتها كانت مرثيّة مالك بن الريب. المحاكاة أداة مفيدة ومذهلة لتعلّم أي نوع من أنواع الفنون، وكما يقول الرسام الإسباني بابلو بيكاسو: «تعلّم القواعد مثل محترف، لتكسرها مثل فنان».

• من مهندس إلى مدرب في الكتابة.. كيف نشأت هذه المفارقة؟

•• درست الهندسة في جامعة جازان، وكانت تلك إحدى أجمل فترات حياتي المليئة بالتعلّم، وتكوين صداقات تستمر لعمر كامل. الهندسة علمتني فن حل المشكلات والتفكير بطريقة منهجية تؤدي إلى خلق فرصة لم تكن موجودة من قبل، وعلمتني الاتصال بالعالم المادي وفهم حقائقه وما يكوّنه ويجعله يتماسك من معادلات ومواد وخصائص متنوّعة ومدهشة.

الإنسان كائن شاسع ومليء بالمتشابهات والمتناقضات، ويمكنه الإبحار في العديد من المجالات والفنون. دائماً ما أفكر أن لدينا الكثير من الوقت كل يوم، عدد طويل من الساعات والأيام والأشهر والسنوات أيضاً على هذا الكوكب. إن عدنا إلى التاريخ سنجد أنه في عصور سابقة، كان من الطبيعي والمعتاد أن يكون المرء شاعراً وفيلسوفاً ومصمماً معمارياً ومخترعاً وربما رجل دولة أيضاً. تاريخنا مليء بمثل هذه الشخصيات التي أتقنت مجموعة مختلفة من العلوم والمعارف ومارستها وتركت أثراً فيها. ابن سينا كان طبيباً وفيلسوفاً وعالم رياضيات، وابن خلدون برع في علم الاجتماع والسياسة والفلسفة والتخطيط العمراني. يظهر هذا النمط أيضاً في عصر النهضة في أوروبا، شخصيات مثل ليوناردو دافنشي الذي كان رساماً، نحاتاً، معمارياً، عالم رياضيات، مهندساً، مخترعاً، كاتباً، وعالم تشريح.

أظن أن عصر الثورة الصناعية ساهم في انحرافنا عن هذه الطبيعة البشرية المتنوعة، وأصبحنا نسأل الطبيب لماذا يكتب، والمهندس لماذا يرسم، والحقيقة أن السؤال الذي ينبغي طرحه هو: لماذا لا تكتب، ولا ترسم، ولا تخترع، ولا تفكر خارج سياق آلة الحياة المعاصرة التي تبتلعك؟

عصرنا الحالي مليء بالنماذج التي استطاعت الخروج من سطوة التفكير الضيق لما يجب أن نُطلقه من أسماء وهويات لأنفسنا. غازي القصيبي -رحمه الله- كان نموذجاً للإنسان المتعدد البارع في مختلف الحقول والمعارف من الأدب إلى السياسة والإدارة.

أؤمن باتساع عمر الإنسان لصناعة وارتداء الكثير من القبعات. كل قبعة تعبّر عن فصل من فصول الحياة. ارتديت في حياتي قبعة الشعر، والهندسة، والترجمة، والكتابة. الجميل في القبعات هو أنه بإمكانك الاحتفاظ بها في خزانتك لترتديها من جديد بعد سنوات.  

• ماذا تعلّمت من الدراسة في الخارج؟

•• حصلت على شهادتي ماجستير؛ الأولى في الهندسة والثانية في إدارة الأعمال، من ألمانيا وإيطاليا في السنوات السبع الماضية، ودرست في ثلاث جامعات. في هذه السنوات السبع، التقيت بالعديد من الزملاء والأصدقاء والمعلمين وتعلمت الكثير من الدروس. أحد أكبر هذه الدروس هو أهمية الإصغاء إلى الآخرين، خصوصاً أولئك الذين يختلفون عنك ولهم تجارب وخلفيات لا تشبه ما تعرفه. في تلك المحادثات ستتعلم أكبر الدروس، وستعرف وُجهة نظر جديدة لم يسبق لك التفكير بها. ألمانيا مكان مثالي لتعلّم مثل هذه الدروس؛ لأنها نقطة التقاء يجتمع فيها عدد هائل من الناس من كل أنحاء الكوكب. قد لا يعرف الكثيرون هذا عن ألمانيا، ولكنها ثاني أكبر بلد للهجرة بعد الولايات المتحدة الأمريكية في العالم.

دراستي لإدارة الأعمال في ألمانيا علمتني كيفية استخدام أدوات صُنع التغيير والأثر في العالم المعاصر. إذا أردت أن يكون لك صوت وحضور عليك إتقان استخدام هذه الأدوات لنشر الأثر والمساهمة في تحسين محيطك وبيئتك. أؤمن أن هذه الأدوات مفيدة لكل الفنانين والكتّاب والمترجمين والأدباء وأن علينا تعلّمها والاستفادة منها لإيصال أصواتنا إلى أبعد نقطة ممكنة.

في عصرنا اليوم لم تعد أدوات التسويق والمبيعات وتطوير الاستراتيجيات وأبحاث السوق والذكاء الاصطناعي وغيرها حكراً على الشركات والمؤسسات الضخمة فقط، بل أصبحت متاحة لنا جميعاً خصوصاً في حقول الفن والأدب. لذلك أؤمن بضرورة نشرنا للمعرفة في مجالنا ليتطور ويزدهر ويتمكن الروّاد والممارسون فيه من الاستمرار بالإنتاج والعطاء. لهذا السبب عملت في الأشهر الماضية على تأسيس مجتمع مئة يوم من الكتابة لمساعدة الكتّاب على الالتزام بالكتابة وإتقان فنها وخلق الأثر فيها باستخدام الأدوات الحديثة لصناعة التغيير.

كثيراً ما نتحدث عن حاجتنا لإثراء المحتوى العربي وزيادة عدد الكتب الصادرة في اللغة العربية وبناء مكتبة المعرفة العربية على الإنترنت، ولكننا لسببٍ ما نتجاهل الحلقة الأهم في معادلة المحتوى العربي: الكاتب.

الكاتب هو الوحدة الأهم في صناعة المحتوى في اللغة العربية. هذا الكاتب يمر بعقبات كثيرة توقفه وتمنعه من الكتابة، ويشعر بالتهديد والخوف مع تطوّر أدوات الذكاء الاصطناعي. يمر الكاتب بعقبات نفسية، وعقبات فنيّة، وتسويقية. قد لا يجد الدعم اللازم والموارد المناسبة لمساعدته على أخذ خطوته الأولى لإتقان صنعة الكتابة والعمل على إنتاج أعماله ونشرها.

لذلك بالإضافة إلى كل المبادرات والمشاريع التي تشجع المجتمع على القراءة، أرى أنه من الضروري تشجيع الكتّاب على الكتابة. لا أتفق مع الرأي القائل إننا نعاني من مشكلة قراءة في المجتمعات العربية، بل أظننا نعاني من مشكلة غياب المحتوى العربي المناسب. القارئ العربي متعطش للقراءة، لكنه لا يجد المواد التي يبحث عنها باللغة العربية. لهذا السبب نرى الإقبال الكبير من القرّاء في معارض الكتاب على الكتب المترجمة، لأنها تجيب عن أسئلة قارئ اليوم وتخاطب تحدياته المعاصرة التي يعيشها. لطالما كانت القراءة فعلاً ينبع عن حاجة؛ حاجة إلى المعلومة والمتعة وحاجة إلى العثور على الإجابات. نحن بحاجة إلى نظام يمكّن الكتّاب من التعرّف على حاجات القارئ العربي اليوم وأسئلته ومشاكله وهمومه، ثم الكتابة عنها لعكسها والتعبير عنها في الكتاب، ثم محاولة مواجهتها وفتح حوارات بناءً عليها. إن نجحنا نحن الكتّاب في التعاطف مع القارئ العربي والاستماع إليه والكتابة له، أجزم أنه سيُقبل على قراءة الكتب بطريقة مذهلة.

لكل هذه الأسباب أسّست مجتمع «مئة يوم من الكتابة» لتمكين الكاتب المبتدئ من تجاوز عقبات الكتابة، ورفع إنتاجيّته والتزامه، ومنحه الأدوات لإتقان فن الكتابة في العالم الرقمي، وكتابة القصص وطرح القضايا التي يبحث عنها قرّاء العربية اليوم.

لسببٍ ما تميل الكتابة العربيّة -مثلها مثل الكتابة الأوروبيّة- إلى حجب وإخفاء أسرار صنعة الكتابة. لا نريد لصورة الكاتب المُلهَم أن تتحطّم في أذهاننا بكشف الخطوات التي مكّنته من كتابة أجمل أعماله. لا نريد معرفة أسرار الكتابة حتى لا نفسد الفكرة الرومانسية للكاتب. الأمر أشبه بسؤال لاعب الخفّة عن كيفية إخراجه للأرنب من القبعة في عرضه، أو عن سر معرفته للرقم الذي احتفظنا به في سرّنا. لقد آمنا لفترة طويلة بالقدرة السحريّة للكتّاب ونريد لهذا الإيمان أن يستمر.

الغموض والسحر جميل ومغرٍ لسرد القصص عن الحياة المذهلة للكتّاب، لكنه لن يساعدنا على اللحاق بركب الأمم للكتابة بغزارة وإتقان وإثراء المكتبة العربية لعقود قادمة. لكل هذه الأسباب أجدنا بحاجة لمشاركة المعلومات عن الكتابة والمساهمة في منح أدواتها لكل مَن لديه قصة أو معرفة أو معلومة مفيدة وممتعة ليتمكن من كتابتها وتوفيرها للقارئ في لغتنا العربية.  

• بدأت شاعراً وتوقفت بعد إصدار ديوانك الأول.. لماذا؟

•• الشعر هو البداية والنهاية والطريق. هو أكثف أنواع الكتابة وأصدقها وأصعبها. أحب الشعر وأقدمه على بقية أنواع الفنون، وبعد سنوات من كتابتي للشعر ونشر ديواني الأول (صيّاد الظل) أردت الانطلاق لاستكشاف مساحات جديدة في التعبير اللغوي والإنساني، أردت السفر وتعلّم اللغات والتعّرف على تجارب بشرية جديدة، وهذا ما منحته لي الترجمة. ما زلت أكتب الشعر ولا أنشره. أكتبه للتأمل ولشفاء الروح وربما عدت في المستقبل لنشر ديوان جديد إن سنحت الفرصة المناسبة.

• اهتمامك بالترجمة، كيف بدأ؟

•• بدأت بالترجمة لسبب قد يكون غريباً، لكنه ما دفعني لها في البداية: أردت تذكّر المزيد مما أقرأ. لاحظت تسرّب المعرفة التي أقرؤها في الكتب من ذاكرتي بطريقة جعلتني أصمم نظاماً يضمن لي تذكّر كل ما أقرؤه. بدأت مدونة معطف فوق سرير العالم وأعلنت التزامي بترجمة قصيدة ومقال كل أسبوع ونشرهما على النشرة البريدية. كان هذا الالتزام مطمئناً بالنسبة لي؛ لعلمي أنني سأدرس وأحلّل تلك النصوص بانتباه وتركيز يتفوّق بمراحل على القراءة العاديّة. لذلك تقول المترجمة فرانشيسكا رومانا: «نحن المترجمين نقرأ بدقة تفوق دقة النقّاد. علينا أن نضع في الحسبان كل كلمة، كل فاصلة، كل نقطة. أما النقاد فيقفزون من فوق السطور أحياناً».

سبب آخر دفعني للترجمة هو رغبتي في استخدامها أداةً لتطوير قدرتي على الكتابة في مُختلف الموضوعات والحقول. كانت الترجمة الأسبوعيّة عبر مدوّنة معطف فوق سرير العالم مساحة تمكنني من التدرّب على صنعة الكتابة في بيئة مقيّدة. هذه البيئة المقيّدة هي أفضل ما يمكن للفنان أن يحصل عليه لصقل مهاراته في أيّ حقل فني. المُترجم مقيّد بالمعنى وبالسياق التاريخي والثقافي للنص وبقصة حياة الكاتب وبنبرته وصوته في النص وحس الفكاهة والمفردات والأسماء وغيرها من القيود. الأمر أشبه بالتدرّب على لعب كرة القدم ووضع أثقال على قدميك حتى تصبح قدرتك على الركض هائلة حين تترك الأثقال وتلعب الكرة دونها. 

• الترجمة وما يدور حولها من لغط.. حدثنا عن ترجمة الإبداع من منظورك الشخصي.•• أعدّ الترجمة فرعاً من فروع الأدب اتباعاً لرأي الكاتبة الأمريكية سوزان سونتاغ. الترجمة ادّعاء لقيمة الأدب واختيار للنسبة المئوية الضئيلة من الكتّب التي تستحق القراءة وتستحق إعادة القراءة. فعل الترجمة ذاته هو ادعاء لقيمة هذه الكتب وحُكم بتفوّقها على غيرها. كل هذا قبل الدخول في إمكانية الترجمة وجودتها وغيرها من النقاشات. غرض الترجمة توسيع دائرة القراءة لكتاب أو نص، يُفترض أنه مهم. إنه إعلان لوجود كتب أهم من كتب أخرى.

بعد فهمنا لهذه الفكرة الأساسيّة عن الترجمة نستطيع الانتقال إلى نقاش آخر عن كيفية الترجمة، وهنا أتفق مع سونتاغ أيضاً في رأيها أن الترجمة هي مجموعة من الاختيارات الصعبة. ليست بين جيد وسيئ، بل بين جيد، وأفضل، والأفضل. بين قديم ومعاصر، مباشر ومجازي. الترجمة امتياز تحظى به أعمال مُختارة من الكتابة البشرية، في محاولة لجعل هذه الأعمال متاحة لعدد أكبر من القرّاء من ثقافات ولغات مختلفة. هذه الثقافات واللغات لها طرق مغايرة في رؤية العالم والتعبير عنه. كل لغة ترسم العالم بطريقتها الخاصة، ومهمّة الترجمة هنا هي جعل المستحيل ممكناً، هناك سياقات ثقافيّة متخالفة بين اللغات، وأنظمة لغوية متعارضة. مئات وآلاف السنوات من الاختلاف جميعها تنتهي على طاولة المترجم، في صفحة وفي سطر وفي كلمة، وعليه حل هذا اللغز والترجمة بطريقة تذيب كل هذه الاختلافات التي شكّلتها الجغرافيا والتاريخ والحضارات المتباينة. لكل هذه الأسباب علينا تجاوز النقاشات التي تنتقد الترجمة دون فهم عميق لسياقها وغرضها، لننتقل إلى فهم معادلات الترجمة والتفكير في الترجمة على أنها ممارسة لإتقان فن التضحيات. حتماً في أغلب النصوص علينا التضحية بشيء ما أثناء الترجمة، والمترجم البارع هو الذي يتقن اختيار ما سيضحي به. كل نص له مكونات وعناصر يعتمد عليها سواء كانت استخدامات لغوية خاصة باللغة المصدر أو إحالات ثقافية أو نكات محليّة، بالإمكان تحليلها ووضعها في نموذج يحدد إمكانيّة ترجمة هذا النص وحجم الخسائر التي يجب التضحية بها حين نقله.

على سبيل المثال ترجمة قصيدة للشاعر الروماني مارين سوريسكو تختلف تماماً عن ترجمة معلقة امرئ القيس. لا يمكن إطلاق حكم واحد عليهما والقول بصعوبة أو سهولة ترجمة الشعر. قصائد مارين سوريسكو لا تعتمد في بنائها على الخصائص اللغوية للغة الرومانية، وأفكارها ومعانيها كونية وتنتقل بسهولة بين اللغات لدرجة أن يمكنك ترجمتها إلى العاميّة أو حتى سردها في قصة لطفل صغير وستحتفظ بجمالها ودهشتها. هذه ليست قضية ترجمة، بل خصائص وقرارات اتخذها الكاتب حين كتب النص الأصلي.

دائماً ما ننشغل بالحديث عمّا تخسره النصوص حين ترجمتها، ولكن ماذا عن تلك النصوص التي لم تنجح إلا حين تُرجمت إلى لغات أخرى، وعثرت على قارئها المثالي في لغة أخرى وفي ثقافة أخرى؟ الترجمة هي رحلة بحث عن القارئ الذي يحتاج إلى قراءة هذا النص لسد حاجة عميقة لديه، للتعبير عن تجربته الإنسانيّة بدقة وأصالة ودهشة، ومنحه الكلمات التي يحتاجها لوصف حياته.  

• هناك حوارات كثيرة حول ورش تدريب الكتابة، هناك من يرفضها بشكل كلي، وهناك من يرى أنها ليست كل شيء، وأنها لا تصنع مبدعاً.. ما رأيك؟

•• ورش الكتابة هي اختراع أمريكي بامتياز. ثار فيها كتّاب أمريكا على فكرة العزلة في الكتابة. بدأت بذور هذه الثورة في القرن الثامن عشر في جامعة هارفرد، حين اجتمع عدد من الكتّاب لقراءة أعمال بعضهم، والتعليق عليها ونقاشها. الكتابة الأمريكية هي كتابة ضد العزلة، وضد الفكرة الأوروبية السائدة عن قدرة الكاتب على استحضار ربّات الإلهام في عزلته ليعود إلى العالم بأجمل أعماله دفعة واحدة. لا تكاد تجد كاتباً أمريكيّاً في العقود الماضية لم يسبق له الانضمام إلى ورشة كتابة: جيروم ديفيد سالنجر، جاك كيرواك، آلان غنسبرغ، تشاك بولانياك، آن سكستون، سيلڤيابلاث، وجون إرڤنغ: جميعهم شاركوا في ورش الكتابة.

اذكر اسم أي كاتب أمريكي تعرفه، فأغلب الظن أنه قد شارك في ورشة من ورش الكتابة في مرحلة ما من حياته. الكتابة الأمريكية تؤمن بضرورة وضع الكاتب أمام مجموعة متنوعة من الآراء والأفكار في مرحلة مبكرة من ولادة نصه، لتتحسن كتابته ويرتفع مستواها بتسارع.

إن أردنا الحديث أكثر عن تاريخ ورش الكتابة فورشة آيوا للكتّاب التابعة لجامعة آيوا الأمريكية هي أوّل ورشة رسميّة للكتابة ضمن جامعة أمريكية (أسست عام 1936). كيرت ڤونيغوت، وڤيليب روث، وروبرت فروست جميعهم عملوا في ورشة آيوا للكتّاب. خرّجت ورشة آيوا للكتّاب 17 فائزاً بجائزة الپوليتزر الشهيرة، وعدداً من الشعراء المتوّجين بأعلى جوائز الشعر في أمريكا.

وسبب هيمنة ورش الكتابة على تقاليد الكتابة الأمريكية لأكثر من 85 عاماً هي أنها تمنح الكاتب إطاراً يلتزم فيه بالإنتاج لوجود مجتمع وكتّاب معه وبيئة تنافسيّة تحفز على الاستمرار، ووجود مساحة حرّة للتجريب والاختبار والفشل، وهي فرصة أيضاً لاكتشاف نقاط قوة الكاتب.

بالنسبة لرأيي في الأمر، أجد أن الطريقة والجودة التي تنفّذ بها فكرةٌ ما أهم من الفكرة نفسها.

في ورش الكتابة لا توجد محاضرة أو تعليم مباشر من مدرب أو كاتب خبير، بل هي مساحة لمراجعة النصوص وتبادل الآراء بين الكتّاب. خلق لبيئة تساعد على الكتابة وتعطي الكاتب ردود فعل مبكرة لكتاباته حتى يتمكن من اختبارها وتحسينها قبل الانتهاء من النص ونشره.

قبل عشر سنوات كنت محظوظاً بالانضمام إلى الأكاديمية الأمريكية للكتابة في باريس، وفيها خضت تجربة ورش الكتّاب مع كتّاب من مختلف أنحاء العالم. تعلمت قيمة الكتابة مع مجموعة من الكتّاب واكتشفت العديد من أسرار الكتابة في تلك المرحلة.

• عملتَ على عدد من المشروعات الثقافية، ابتداء بمعطف فوق سرير العالم وليس انتهاء بمشروعك اليوم رسالة السبت.. ما الذي دفعك إلى هذا؟

•• نشرة معطف فوق سرير العالم ونشرة رسالة السبت هما مشروعان للتدرّب أمام الملأ. أؤمن بفاعليّة هذه الطريقة لتطوير الأفكار وصقل المشاريع وإنجازها.

ما فعلته في نشرة معطف فوق سرير العالم قبل أكثر من 12 عاماً هو إطلاقي لوعد بترجمة ونشر نص كل أسبوع، من هذا الوعد البسيط انطلقت لأترجم 20 كتاباً، وأعمل في صناعة النشر لأكثر من عشر سنوات حتى الآن. الأمر ذاته كررته في نشرة رسالة السبت التي بلغت عامها الأول بنهاية شهر أغسطس الماضي. أطلقت فيها وعداً بنشر مقال جديد صباح كل سبت ولم يتأخر المقال دقيقة واحدة عن موعده الأسبوعي طيلة 52 أسبوعاً مهما كانت الظروف.

فوائد التدرّب أمام الملأ هو اقترابك من أثر عملك في العالم، وسماعك لردود أفعال القرّاء وتطويرك للأفكار معهم. من نشرة رسالة السبت وُلد مشروع مئة يوم من الكتابة الذي بدأت بالعمل عليه في شهر ديسمبر من العام الماضي مع مجموعة من الكتّاب لتطوير مجتمع كتابة يساعدنا على الالتزام بالكتابة وتعلّم فنها وبناء نظام متكامل لتوليد الأفكار وكتابتها ونشرها لبناء قاعدة من القرّاء.

بدأت أيضاً في بناء أول منصة عربيّة للكتابة، وهي تهدف لمساعدة الكاتب على جمع الأفكار وتوليدها وتحويلها إلى نصوص ومراجعتها في ورش كتابة رقمية ضمن مجتمع الكتابة، ثم نشرها على المنصة وبناء نشرة بريدية للكاتب وموقع إلكتروني خاص به.

في مجتمع مئة يوم من الكتابة يتعهّد كل كاتب بالالتزام بالكتابة والنشر في المئة يوم القادمة باختيار أحد هذه الخيارات الثلاثة:

كتابة ونشر نص كل يوم، كل أسبوع، أو كل شهر.

في هذه التجربة سيمر الكاتب بعقبات الكتابة ويتجاوزها واحدة تلو الأخرى ثم سيصبح قادراً على الاستمرار في الكتابة دون تردد أو خوف.

كل هذا أقوم به أمام الملأ، بالاستماع إلى آراء الكتّاب أعضاء المجتمع الذين يستفيدون من هذه التجربة ويساهمون في تشكيل مستقبلها.

• كيف وجدت تفاعل القارئ مع هذين المشروعين ومع ترجماتك التي تجاوزت الـ20؟

•• تفاعل القرّاء ملهم ويدفعني للاستمرار دائماً للعمل على المزيد من المشاريع. ما زلت أتلقى رسائل القرّاء تعليقاً على مقالات نشرتها قبل 10 أعوام. منهم من قرر البدء بالكتابة أو العمل في حقل فني بسبب نشرة أرسلتها أو كتاب ترجمته. هذا الأثر ثمين جداً وأجدني محظوظاً به. قدرة الكتابة على تغيير حياتنا وفتح أبواب الاحتمالات لنا هو أمر يسحرني ويجعلني أؤمن بضرورة الاستمرار في الكتابة ودفع المزيد من المهتمين بها للتوقّف عن التسويف والإسراع بالإنتاج والتعبير عن تجاربهم عبرها.

• ما الشروط الواجب توافرها في النص الأدبي الذي تنوي ترجمته؟•• لا توجد شروط لاختيار النص، بل هو سؤال واحد أطرحه على نفسي باستمرار: ما الفكرة التي يحتاج القارئ العربي لقراءتها ومعرفتها ولا نجدها متوفرة في كتبنا العربية؟

كل كتاب اخترت ترجمته كان بعد الإجابة عن هذا السؤال.

حين ترجمت أسباب للبقاء حياً وملاحظات حول كوكب متوتر للكاتب البريطاني مات هيغ، كانت الفكرة عن الصحة النفسية وضرورة الاهتمام بها في عالمنا المجنون اليوم.

حين ترجمت رقصة القمر مع آينشتاين لـ جوشوا فوير كانت الفكرة عن فن وعلم تذكر كل شيء وأسرار الحفاظ على ذاكرة حديدية.

حين ترجمت المدينة الوحيدة لأوليفيا لاينغ كانت الفكرة عن العيش في عزلة في مدينة مكتظة بالبشر وقدرة الفن على سد الفراغ الكوني الذي نشعر به جميعاً في حياتنا المعاصرة.

الترجمة بالنسبة لي أداة لغوية وأدبية تسعى لملء فراغ في رف المكتبة، للإجابة عن أسئلة مهمّة تساهم في دفعنا للاستمرار بالحياة وإنتاج الفن وبناء العالم.

• بعد الكتب العديدة التي ترجمتها، هل يمكنك تلخيص أبرز المشكلات التي يواجهها المترجم إلى اللغة العربية؟

•• الحديث عن مشكلات المترجم بابه واسع، وهناك من هم أقدر مني على الخوض فيه وتفصيله، لكن من واقع تجربتي أرى أن مشكلات المترجم تختلف باختلاف درجة خبرته. في بداية مسيرة المترجم قد يكون العثور على المواد التعليمية المساندة للمترجم إحدى أصعب المشكلات التي عليه مواجهتها، بالإضافة إلى إيجاد طريقه في التعامل مع دور النشر وإقناعهم بإعطائه الفرصة للعمل على مشروع كتاب حين يصبح مؤهلاً لهذه المهمة.

ثم في مراحل متقدمة من مسيرة المترجم تصبح المشكلات متعلقة بالدافع والحافز للاستمرار في الترجمة والتطوّر المهني فيها، ومواجهة المهمة الصعبة للبحث عن المصطلحات المتفق عليها والمتعارف عليها في الحقل المعرفي الذي يُترجم فيه.

هنا أود الإشارة إلى جهود هيئة الأدب والنشر والترجمة التي تفهم قيادتها هذه المشكلات جيّداً، وتستجيب لها بإطلاق مبادرات ومشاريع مثل مشروع الإرشاد الترجمي؛ الذي يهدف إلى تطوير قدرات ومهارات المترجمين تحت إشراف خبراء في مجال الترجمة بمتابعة مرشدين متخصصين في مجالاتهم، ومشروع منحة الترجمة الذي يمكّن دور النشر من مضاعفة أعداد الكتب المترجمة لديهم كل عام بما يساهم في إثراء المكتبة العربية بالعناوين التي تستحق القراءة وإعادة القراءة.

• هل ما زالت دور النشر لدينا تهتم بالكتاب الذي يبيع على حساب الكتب الجيدة؟

•• من وجهة نظري يجب علينا السعي للوصول إلى مناخ ثقافي يصبح الكتاب الجيّد فيه هو الأكثر مبيعاً ورواجاً بين الناس، ولا أعتقد أن هذه حالة مستحيلة، على العكس تماماً. أعتقد أن قرّاءنا لديهم وعي كبير ويبحثون عن الكتب الجيدة والعديد منهم يقرؤون بلغات أخرى.

والمهمة تقع على دار النشر وعلى الكاتب في اللغة العربية لتوفير هذه الكتب والعمل عليها بدءاً من إدراك رغبة الناس بها، ثم العمل على كتابتها وتحريرها وتسويقها بالطريقة المناسبة باستخدام أدوات التقنية الحديثة في عالم اليوم.

حان الوقت للكاتب ودور النشر أن يطوروا من أدواتهم، لاستخدام أبحاث السوق والاستفتاءات والمقابلات مع القرّاء والحديث معهم لفهم احتياجاتهم وأذواقهم ورغباتهم، ثم العمل على تطوير مجموعة من الإصدارات والأعمال التي تتوافق مع هذه الأذواق وتجيب عن أسئلة أصحابها.

الكتابة واسعة باتساع العالم، والأدب يسع التجربة الإنسانيّة وفيه ما يرضي جميع الأذواق، من الأدب الواقعي، وكتب السفر والرحلات إلى الرواية بكافة أصنافها وأنواعها إلى الشعر والقصص والمقالات والسير الذاتية. نحن الآن عند مفترق طرق لبناء كتّاب وصناعة نشر تستوعب التنوع في مجتمعنا وتقدم له ما يحتاج قراءته، وجهود هيئة الأدب والنشر والترجمة ووزارة الثقافة بارزة في هذا المجال، ونحن الآن أمام فرصة تاريخيّة لدفع الدفة للأمام وإحداث التغيير الذي طال انتظاره.  

• ما الكتاب الأقرب إليك من كتبك، ولماذا؟

•• الكتاب الأقرب لي هو الكتاب الذي أترجمه لحظة الترجمة. هكذا أستمتع وأقع في حب كل كتاب قبل وأثناء وبعد ترجمته. جميع الكتب التي ترجمتها محببة وقريبة من قلبي ولا أستطيع التفرقة بينها.


Read Entire Article