من التُّهم التي أعتز بها، والشرف الذي أدّعيه، أنّي أعشق المسرحي محمد ربيع الغامدي، بحكم اطلاعي المُبكّر على جهوده التنويرية في منطقة الباحة، فهو أحد مؤسسي المسرح المدرسي، بل كان يقدّم نصوص (شكسبير) لطلابه في السبعينيات ليمثلوها على المسرح المدرسي، وعمل مُعلّماً في معهد المعلمين، ثم مُشرفاً ثقافياً، وكتب القصة، وأشرف على الثقافة في مجلة الغرفة التجارية، ونقل المسرح لنادي السراة في رغدان، ثم لجمعية الثقافة والفنون، ورغم العقود السبعة من العمر إلا أنّ العطاء والحضور الداعم ديدنه في كل فعالية أدبية.. وهنا نص حوارنا معه:
• ماذا يعني لك قول البعض عنك «مثقّف صدّاق»؟
•• مشكلتي -في هذه العبارة- مع كلمة مثقف، فكلمة مثقف هي كلمة كبيرة جداً، ومع أنها أصبحت مفردة متداولة تداول الناس لذرة «حب الحاج» إلا أني أعتبر نفسي مشتغلاً على الثقافة منشغلاً بها. أما كلمة «الصدّاق» فلا مشكلة بيني وبينها، في جميع معانيها، وبجميع احتمالاتها، ولعل الذين أطلقوها وجدوا لديّ ما يوافق ذلك فلا حرج ولا عتاب.
• رغم دراستك للجغرافيا إلا أنك لم تعشق السفر والترحال، أكثر من التنقّل بين الباحة والطائف ومكة وجدة، فأنت (بيتوتي).. هل من تفسير؟
•• (بيتوتي) هذا صحيح. وحتى إذا سافرت أخذت بيتي معي، ربما حاولت الجغرافيا أن تصنع مني رحالة لكن ما هو أقوى من الجغرافيا حال دون ذلك، خصوصاً السفر للخارج، فالخارج بعيد، والسفر إليه يعني أن تسلم نفسك للأقدار، لو دعتك ظروف طارئة لقطع السفر والعودة فلن تكون الرياح تحت إمرتك. لقد تفرغت في الثلث الأول من شبابي لقلق أبي وأمي فلم أستسغ البعد عنهما، وتفرغت في الثلث الثاني لقلقي على أبنائي، وفي الثلث الأخير تحولت عصا الترحال إلى عصا أتوكأ عليها. ومع ذلك فما عدمت الفرصة بين حين وآخر لزيارات محدودة وضمن مهمات محددة لقليل من البلدان العربية. أما الداخل فأنا واثق أن قدميَّ لم تتركا شبراً من بلادنا الغالية لم تصل إليه، سواء في رحلات مدرسية تنظمها وزارة المعارف (تلك الأيام) أو في رحلات شخصية، ولي في كل ريع آية وذكرى.
أتذكر أن رعاية الشباب بالباحة رشحتني عضواً في وفد شبابي سعودي لزيارة كوريا الجنوبية، وفرحت وفرح أبواي فبادرت إلى تجديد جواز السفر واستكمال بعض الأوراق، غير أن انقباضاً حلّ في قلبي لم أطلع عليه أحداً، لكني بادرت بعد صراع مع نفسي إلى الاعتذار عن السفر لأعطي فرصة للبحث عن بديل، ومات أبي -رحمه الله- في الليلة التي كنت سأغادر في صباحها إلى كوريا.
• هل يستأثر الابن الوحيد بحظوة التدليل التي تنعكس عليه إيجاباً طيلة حياته؟
•• طبعا يستأثر، يكاد ذلك يكون سنة من سنن الحياة، لكن مستويات التدليل تتفاوت من زمن لآخر، وتختلف في الريف عن المدينة، وبين ذوي اليسار وذوي الكفاف. على أيام طفولتي (قبل أكثر من 60 عاماً) كان جلب (دعسوقة) من الحقل ليلهو بها الطفل هدية فاخرة، تحت مظلة التدليل، وعندما استقبلتني أمي بحفاوة بعد انصرافي من يومي الدراسي الأول كانت حفاوة تحت مظلة التدليل، وعندما يأتي أبي من الطائف في ليالي العيد ومعه ملابس العيد، وأعداد من مجلتَي الإذاعة السعودية وقافلة الزيت فهذا يتم تحت مظلة التدليل، أن تحمل حقيبة مدرسية أنيقة في مدرسة يكثر فيها حمل الأخبية (حقائب قماشية بسيطة) فهذا يتم تحت مظلة التدليل. أصدقك القول يا علي لقد كنتُ مدللاً، لكنه تدليل أبوين قرويين لا يقبلان مني تجاوزاً ولا رفع صوت ولا تطاولاً على أحد ولا نظراً إلى ما في أيدي الآخرين، وكانت أكفهما الحانية تحميني من زمهرير الشتاء، وحر القيظ، وتقدم الحماية نفسها لأخواتي.
• كيف بدأت رحلة الدراسة في مجتمع بسيط؟ ما الذي تركته فيك البدايات؟
•• درست الصفوف الثلاثة الأولى في قريتي، في اليوم الأول عندما أوصلني أبي وعاد أدراجه إلى البيت تبعته، وعندما مضى دون أن يلتفت ناديته، فلم يجب، كنت أسمع أزيز غصة كبيرة في حلقي لكني ما بكيت، كان أبي يعلمني أن «من يبكي يبعث يوم القيامة وأذانيه جنب صفحه»! أيقظتني صرخة معلم «ع الطابور ولاه»، قلت «آبي افلح»، قال «خليه يفلح، بدك ياني أجيبه إلك؟» ثم أمسك بذراعي وأخذني إلى ساحة الطابور، وعندما وقف بي أمام الطابور سألني «انته أولى؟»، «قلت: لا، أنا محمد». ضحك ونادى على مشرف الطابور. ووضعني المشرف في مقدمة الصف الأول. كان في المدرسة خمسة صفوف، ترى الصف الأول متراصاً في عمود إلى أقصى اليمين، يليه متوازياً معه الصف الثاني فالثالث فالرابع فالخامس. عند انتهاء مراسم الطابور يتحرك الصف الخامس نحو فصله يتبعه الرابع فالثالث فالثاني فالأول، كل صف نحو فصله، أما أنا فقد سرت وزملائي من خلفي حتى أدخلتهم الصف الثاني! عندما انصرفت كنت عازماً على معاتبة أبي على ما فعل، لكنه فاجأني عند الباب بابتسامة لها ظلال كظلال الجنة، فاستحيت، وعندما وصلنا إلى البيت وجدت أمي -رحمها الله- فرشت فراش كبار الضيوف، المساند والحشايا ودلة القهوة ومنسف التمر، ووجهاً لم يترك بهجة في الدنيا لم يستحضرها، كانت تصب لي القهوة، وتمتدح ما أنجزت وتسألني عن كل شيء، أحسست يومها بأني مخلوق آخر، وفي اليوم التالي نهضت باكراً وحملت حقيبتي واستلمت طريق المدرسة بمفردي.
• ما سبب التحاقك بـ(دار التوحيد)؟ ألم يلحقك عَنَتُ الانتقال من الباحة للطائف؟
•• كان هدف أبي إلحاقي بالمعهد العلمي، لكننا بحثنا عنه يوماً كاملاً فلم نجده، الناس كانت تسميه معهد آل الشيخ، ونحن نسأل عن المعهد العلمي، وعندما استبد بنا الحر والعطش آوينا إلى دكان رجل من أهلنا في الطائف، هو المرحوم والد البروفيسور سعد حمدان، ومن خلاله عرفنا (دار التوحيد) فألحقني أبي بها في اليوم التالي مباشرة. أما الطائف فلم أجد فيه صعوبة لأني عشت فيه سنتين (درست فيه الصفين الرابع والخامس) تعلمت فيهما الكثير من أشكال استئناس السلامة.
من ذلك مثلاً أنه نشب خلاف بيني وبين الزميل عبدالله فواز الغامدي فاستقطب إلى صفه عثمان الصيني (الدكتور حالياً) وهدداني بالضرب عند الانصراف، ولأنهما أخذا دورة في نادي الملاكمة حسبت لتهديدهما ألف حساب، ولذلك كنت حذراً، وكلما أخرجت رأسي من باب المدرسة رأيتهما في آخر الشارع، وعندما طال الوقت، بحثت عن باب آخر فوجدته، وأسلمني إلى طريق آخر سلكته بعيداً عنهما إلى أن وصلت البيت. وفي الصباح وسّطت الصديقين سعد حمدان، وعلي عودة (أستاذان في الجامعة لاحقاً) وصرف الله بوساطتهما الشر.
• لماذا وقع اختيارك على تخصص الجغرافيا؟
•• لسبب جوهري أفضّل بقاءه طي الكتمان، ولنصيحة من الزميل المرحوم علي حمدان العمري (حجري الأب ظفيري الأم) وكنت محباً لثقافته ولأُفقه الواسع ويسبقني في قسم الجغرافيا بسنة دراسية.
• أي مشاهد المرحلة الجامعية لا يبرح الذاكرة؟
•• المشهد الأول.. مشهد حفل الشاي الذي أقامه الدكتور عبدالعزيز خوجة (عميد كلية التربية يومها ثم الوزير والسفير لاحقاً) للطلاب المستجدين، وأدركت يومها أن السمة المميزة لكلية التربية هي أن عميدها عبدالعزيز خوجة. المشهد الثاني مشهد العلماء الأعلام الذين تناوبوا على المحاضرة في الثقافة الإسلامية (علي الطنطاوي، محمد متولي الشعراوي، محمد الغزالي)، المشهد الثالث مشهد الدكتور المرحوم زكي منشي وهو يحاضر لنا في الهواء الطلق عن تضاريس الباحة وعن أشكالها الجيومورفولوجية، وعن نباتاتها وكنا حينها في رحلة علمية للباحة، المشهد الرابع مشهد الدكتور المرحوم عمر الحكيم وهو يرسم على السبورة أشكالاً تضاريسية بمنتهى الدقة، المشهد الخامس مشهد الدكتور عزّالدين فريد (شغل منصب وكيل وزارة الثقافة في مصر) وهو يأخذ بيدي إلى مكتبة الجامعة ليعلمني كيف أبحث في الإنسكلوبيديا بدلاً من سؤال الآخرين، وكنت سألته عن نجم (قنطورس) الذي ورد في واحدة من مسابقات صحيفة «عكاظ» التي لا تنسى.
• من أين تسرب إليك الشغف بالمسرح؟
•• بالضبط من المدرسة الأميرية بحي اليمانية في الطائف، رأيته هناك أول يوم لي في تلك المدرسة عام 1384هـ بستارته المنسدلة من أعلى بارتفاع دورين، كانت تتصدر فناء المدرسة بلونها الزهري، فكنت أمامها مثل مريد عند قدمي شيخ. من يومها سكن في داخلي هذا العملاق الساحر وتعلقت به حدّ الطيش.
• متى كتبت أول قصة؟ وما مصيرها؟
•• كتبت قصة الكلاب في عام 1395هـ ثم راجعتها وخرجت عن أصلها في عام 1397هـ، وفي عام 1398هـ دفع بها أحد الأحبة مشكوراً إلى مسابقة القصة في إذاعة جدة وكان ينظمها ويشرف عليها المرحوم مطلق الذيابي، وفي ظهيرة يوم فتحت المذياع، وإذا كلمات قصتي بصوت هذا المذيع العملاق، فازت يومها بالجائزة.
• بماذا استقبل طلابك دعوتك لهم للمسرح؟ وما أبرز الأعمال التي تلقاها الجمهور بالقبول؟
•• طلاب بني سار في منطقة الباحة طلاب مجدون محبون لممارسة النشاط واستجابوا، وكان نص (تاجر البندقية) هو النص المطروح للتنفيذ، النص في أصله لشكسبير، لكن قام الدكتور إسماعيل حسن الغسال (مدير الوحدة الطبية بالجامعة) بإعداده لننفذه لصالح الجامعة، إلا أن ذلك لم يحدث، فطلبته لتنفيذه في الباحة ووعدني بالحضور، وحضر بالفعل من مكة المكرمة، وتم العرض في مدرسة التوفيق بالظفير.
• لماذا كان الموقف الجمعي حاداً أو محتداً ضد المسرح؟
•• التصور الخاطئ المتوارث عن المسرح، وما يحدث على خشبته غالباً من التشخيص والمحاكاة التي يعدونها ضرباً من الكذب، وهناك بعض الفئات لا تحب الضحك ولا تحب البكاء، فالضحك شمازة (سماجة) والبكاء خور في الطبع. وعندما اشتدت (الصحوة) استقوت بهذه العوامل وحاربت المسرح باعتباره تغريباً لم يعرفه الأوائل، فتحول إلى نشاط قوامه الأناشيد وبعض (الاسكتشات) المباشرة.
• لعلّك أوّل من فعّل المسرح المدرسي في منطقة الباحة؟
•• عملت لوحدي فترة قصيرة وقدمت فيها أعمالاً ممنهجة، ولكن كانت هناك تجارب سابقة وتجارب موازية غير أن إنشاء قسم للمسرح في تعليم الباحة وتسليمه لمختص من مصر هو المرحوم وجدي حسن محمود، لمّ شتاتنا فكانت لنا حقبة ذهبية جميلة قبل أن تطيح (الصحوة) بالمسرح.
• لماذا أخفقت مشاريع المسرح في ذلك الوقت؟ وهل للتوعية الإسلامية دور في وأدها؟
•• لم تخفق مشاريع المسرح ولكن لم يعد للمسرح من يسامره، والتوعية الإسلامية تحديداً لم تتدخل كثيراً في شؤوننا، وإن كانت بعض رسائلهم الممررة إلينا تستقبح ما نفعل.
• يبدو أن (أبو الفنون) استهلك جهداً ووقتاً دون قطف الثمار المرجوّة.. ما تعليقك؟
•• ليس تماماً، الثمار كثيرة منها الظاهر ومنها الباطن، ولو لم يكن لي منه سوى بهجة نفسي واستمتاع غيري لكفاني ذلك، وبصدق فلم تكن لي أهداف سوى صنع حالة من الفرجة لمجتمع ليست لديه من وسائل الفرجة شيء، بما فيها التلفزيون الذي لم يصل إلى تلك الجهات إلا متأخراً.
• ما شروط نجاح العمل الثقافي؟
•• الصدق بعيداً عن أحلام الشهرة، والإخلاص بعيداً عن الكسل، والتجربة فالتجارب ثراء، وتوفر ملكة أو أكثر من ملكات الإبداع الثقافي لأنها تعطيك الخلايا التي تبني عليها مشروعك.
• كيف تفسر شغفك بالحكايات الأسطورية؟
•• أمي (رفيعة) وهي من سيدات قريتنا الكبيرات سنّاً وفضلاً، كانت -رحمها الله- لا تنقطع عن الاستغفار والدعاء والتسبيح، غير أنها عندما نجتمع حولها تشرع في سرد الحكايات، كانت -رحمها الله- سفينة حكايات وأساطير وربما كانت هي نافذتي الأولى والأعمق إلى هذا العالم المثير.
• بين المسرح والقصة والنشر.. أيها الأثير الذي تتمنى أن تطول معه الرحلة؟ •• المسرح قرأت فيه وعنه الكثير وما زلت، إذ تشكل كتب المسرح بجميع مستوياتها الجانب الأكبر والأجمل في مكتبتي، القصة كتبت فيها كثيراً (10 مجموعات منشورة وثلاث لم تنشر). النشر أوقفت دار بن ربيع منذ أكثر من عام وفارقتها فراق غير وامق. والآن، استخرج مما سبق جواباً على سؤالك الكريم.
• كيف تعوّض ما فاتك من بقيّة الفنون؟
•• مثلنا المحكي يقول: «من اخطاه اللحم يشرب مرقه».. «وآديني عمال ارشف!».
• ماذا عن كتابة سيرتك الذاتية؟
•• كتبتها، وجاهزة، وفيها صور ووثائق نادرة، ولعلها تصافح أحبتي خلال هذا العام.