كان الأدباء والمفكرون قناطر جاهدت للسير في الدروب الوعرة بحثاً عن حياة مستقبلية تليق بوطن موغل في التاريخ، يحمل أصلاب الحضارات، فأول حضارة انطلقت من مكة فهي أول بيت وضع للناس.. وظلت هذه البقعة الجغرافية تفوح بقيم إنسانية، وأفكار طموحة انتشرت رائحتها في كل مكان، فليس هناك زمن لم يسمع بهذه البقعة. نعم مع انتقال الخلافة من المدينة المنورة تبقى الضوء مشيراً إليها حتى مع تغير موقع الخلافة، وتداخلها مع الحضارات السابقة القديمة، كان ضوء البقعة الجغرافية يراهن أنها القادمة، ففي تلك الحضارات كانت الإشارة لدولة فتية انطلقت من شبه الجزيرة. ومع تقدم الزمن ظهر شاب متقد بالطموح والأمل في استعادة وهج الجزيرة العربية، بكل ما حملته من اعتداد ورغبة في الوقوف في المقدمة.. وخلال سنوات استطاع ذلك الشاب جمع الشرق والغرب في دائرة كبيرة سُميت المملكة العربية السعودية، ويعد الملك عبدالعزيز آل سعود شخصية تاريخية أنجزت ما لا يمكن إنجازه لولا حنكته، وعمله الدؤوب في تجهيز بلاده في أن تكون مستقلة وكبيرة بذاتها، فبعد أن استعاد دولة آبائه، عمل على مواصلة الإنجاز بما يتناسب مع المستقبل، وقد استل الخيط الحريري في زمن (تلعبكت) فيه الخيوط، وترك بلاداً واسعة ربى في أفرادها السعي الدائم للتفوق.
وتنقلت السلطة بين أبنائه بسلاسة، وكل منهم ترك صرحاً شامخاً، وكل من أتى منهم، أضاف إضافة ثمينة زينت ذلك الصرح.
وفي كل زمن من تلك الأزمان كان البلد يحترم بقيمه وثقافته مئات من الكتاب والمفكرين؛ الذين ساندوا الحكام بآرائهم والذود عن حياض البلد حماية لمن أراد تشويه المسيرة. وإزاء ذلك تم تقريب الكتاب احتراماً لهم، وتجسيد ذلك من خلال إيجاد مؤسسات أدبية وفنية، وإقامة مهرجانات تصطفي الأبرز من أبنائها بتقديم جوائز تليق بسمعة البلد وبقيمة كتابها.
ومع مجيء الأمير محمد بن سلمان كنا نتلفت -نحن الأدباء- ما الذي سوف يضيفه هذا الشاب لساحة ثقافية بها عشرات من الحقول المعرفية، تلك الحقول التي أمضت زمناً طويلاً في حالة راكدة ليس بها من تجديد أو نفض الغبار الذي ران على الأشكال الأدبية أو الفنية المتعارف عليها.. كان هناك تيبس في حقول الثقافة والفنون.
كنا نتلفت عما يمكن للعهد الجديد تقديمه لثقافة موغلة في الزمن، والسؤال الحثيث الذي يركض في البال: ما الذي يمكن فعله لمجتمع أراد الحياة؟
فمع الظهور الإعلامي للشاب الأمير محمد بن سلمان يكون وعده للمجتمع المراهنة على الوصول إلى القمم.
كنا ننتظر ما الذي يلوح في أفق الثقافة. أيام وتم الإعلان عن انبثاق هيئتين جديدتين هما: هيئة الثقافة، وهيئة الترفيه. ومع الإعلان عنهما كانت الأسئلة فوارة، ما الذي يمكن للهيئتين فعله؟ فالطموح يتجاوز ما نحن فيه. ومع الأيام توالت أخبار هاتين الهيئتين، وأنهما ضمن «رؤية السعودية 2030» كذراعين مهمتين في تطوير الثقافة وتوسيع الخدمات الثقافية، ليكونا (جزءاً من تحسين مستوى معيشة المواطن السعودي، ورافداً حضارياً واقتصادياً للبلاد).
وقد وقف الأمير محمد بن سلمان على جوهر المعاناة الثقافية حينما قال «نعاني شحاً في الخدمات الثقافية في السعودية».
قارنا الدخل المرتفع للمواطن مع استدراك بأن «المشكلة لا توجد الأدوات التي يستطيع أن ينفق فيها هذا الدخل بشكل ينعكس على رفاهيته في الحياة».
وقال أيضا: «الترفيه والثقافة سيكونان رافدين مهمين جداً في تغيير مستوى معيشة السعودي خلال فترة قصيرة».
وانطلقت الهيئتان كل منهما تنفض غبار الأيام عن مفاهيم وتعدد أشكال الجوانب الفنية والثقافية.
عبرتنا أنشطة عديدة لم نكن نحلم بها، وأدخلت الهيئتان أصنافاً ثقافية وترفيهية لم نكن نفكر يوماً أن يتم الاعتناء بها، فأصبحت الهيئتان رقماً اقتصادياً ثقافياً فاعلاً، ورقماً ترفيهياً جاذباً.
من دخل إلى معرض جدة للكتاب سيجد فضاءً واسعاً تشير إليه مشاركة 400 دار جاءت بكل أنواع المعرفة، سيجد كل الأعمار والفئات، وسوف يجد جُلّ عناوين الكتب بما تحفل من ثقافة متنوعة، وسيجد كُتَّاباً بين ممرات المعرض أو منصات التوقيع، وسيجد الطفل حاضراً من خلال ركن كبير حوى الكتب التي تجذب الطفل بجميع ميولاته، والأطرف أن هناك أطفالاً على منصات التوقيع يوقعون إصداراتهم الذاتية.
وهناك أركان تعليمية وتدريبية وتفاعلية لإحداث انغماس في متعة التعليم والإبداع.
فعلاً تحولت الثقافة إلى رقم صعب في تنمية المجتمع، وإكسابه درجات ثقافية عما سبق.
أستذكر كل هذا وأنا أدور بين أجنحة معرض جدة للكتاب، فالذاكرة تحمل منغصات لمعارض الكتاب لدينا، أما الآن فقد تحولت معارض الكتاب إلى بهجة تسر زوار المعرض.. ومن معرض جدة للكتاب والاستذكار لما كنا نحلم به هلت عشرات الأماني التي كنا نتمنى تحقيق جزء منها، فإذا بالواقع يفيض علينا بأكثر مما كنا نحلم به.