لا بد أن ندرك أن جزءاً كبيراً من إظهار «داعش» كخطر «داهم» على الساحات خاضع لـ«البروباغاندا» الإعلامية، دون أن نغفل خطورة التنظيم الإرهابي، وهذا لا يعني غياب نشاطه طوال السنوات الماضية، وحتى خلال عملية السقوط الرهيب في مايو عام 2019، كان التنظيم حينها وما بعدها بسنوات يشن هجمات عديدة على مناطق خاضعة للسيطرة الأمريكية في سورية، إذن نحن أمام تنظيم لا يلفظ الأنفاس الأخيرة، وإنما يحاول العمل حتى آخر رمق، وهناك فارق كبير بين الحالتين، في حالة لفظ الأنفاس تتراجع القدرة على العمل والتأثير وتأخذ العمليات إستراتيجية العمليات الانتحارية؛ باعتبار أن النهاية أصبحت واقعاً، أما في حالة الرمق الأخير، فيسعى التنظيم لمزيد من الضربات الموجعة التي تمكنه من البقاء على قيد الحياة وإعادة الروح المعنوية إلى الجمهور والأعضاء الذين قرروا أن يكونوا خلايا نائمة.
بين الإمبراطورية والخلايا النائمة
كانت «البروباغندا» الأمريكية والتهويل لخطر التنظيم ونشاطاته وأعماله في سورية والعراق، مقدمة للحرب الطويلة ضده وتفعيل دور التحالف الدولي بشكل كبير، وكانت النهاية كسر هذه الإمبراطورية الإرهابية بأي شكل من الأشكال. وحصل ذلك أن تساقطت الإمبراطورية لكن الجيش «السري» بقي والخلايا النائمة أيضاً بعد أن تناثرت، ومن ثم عادت إلى مركزية جديدة لا تقوم على الهرمية التقليدية؛ أي أن حضور الخليفة أو غيابه لن يشكل فارقاً في إعادة الخلايا إلى نشاطها، لذا كانت الهجمات في سورية والعراق كثيفة وعديدة لكن غياب الخطر الكبير للتنظيم كمنظومة وككيان حال دون صناعة «بروباغاندا» مضادة ضده، ولعل التنظيم تعايش مع حالة النشاط المنضبط والتأثير المتباعد، إذ إن أغلبية الهجمات ضد قوات الجيش السوري أو ضد قوات سورية الديموقراطية «قسد»، كانت مجدية لكنها ليست صادمة وهو ما مكّن التنظيم من الاستمرار دون تجاوز الخطوط الحمراء، وخلق ردود فعل كبيرة تصل إلى حرب ضارية.
كانت هناك حالة من التعايش بين داعش والأعداء على الأرض، إذ طالما كانت المقارنة بين «دولة الخلافة» والخلايا النائمة، وهذا ما يريح خصوم داعش مهما تعددت الهجمات، لكن لا يمكن الجزم بأن تنظيم داعش يتصاعد ويشكل خطراً متزايداً في سورية والعراق أو أي بقعة أخرى، فيما عدا بعض العمليات العابرة، وأيضاً، في الوقت ذاته، لا يمكن تجاهل تنامي هذه الهجمات، إنها معادلة محيرة وتتطلب مواجهة من نوع جديد، بحيث لا يتمكن التنظيم حتى من إعادة الروح المعنوية التي تشكل حجر الأساس في عملية التجنيد.
خارطة الانتشار والاستهداف
ليست هناك حاجة ماسة إلى «البروباغندا» الإعلامية اليوم، بقدر ما هناك حاجة إلى إعادة تتبع مسار التنظيم من الناحية العملياتية ومن ناحية خارطة الانتشار والاستهداف، وكثيراً ما يعيش التنظيم على أخطاء إستراتيجيات الدول، مثل عملية المبالغة في قوة التنظيم وهو ما استثمرها بمزيد من التجنيد، وكذلك بقدراته التخطيطية والتكتيكية، الأمر الذي استثمره أيضاً التنظيم في توسيع دائرة نفوذه المعنوي، إنها حالة مركبة في كثير من الأحيان، ولكن نتيجتها مغرية للتنظيم بالعودة أو في أقل الأحوال رفع مستوى الهجمات، وهي تعايش التنظيم مع إستراتيجيات الدول، وخصوصاً الدول الكبرى التي تتناقض مصالحها في العديد من المناطق، وهذا ما يفتح للتنظيم المجال أيضاً للنشاط، ولعل سورية كانت لفترة طويلة من الزمن تأكيداً على استفادة التنظيم من تناقضات الدول اللاعبة والاستفادة من حالة الخصومات أو التنافس في كثير من الأحيان.
نتحدث مجدداً عن داعش، بعد عملية غراسنورغورسك في محيط موسكو، في 22 مارس الماضي، العملية التي أثارت أسئلة منها ما هو مخيف، ومنها ما يحمل تساؤلات عن الهدف من هذه العملية، خصوصاً المكان والزمان، بل إن موسكو بالتحديد فتحت الكثير من الأسئلة، لماذا الهجوم في هذا التوقيت؟ وهل فعلاً عملية داعشية أم أنها مركبة أيضا؟. في يونيو من عام 2023 أضافت دول التحالف الدولي ضد داعش كلاً من طاجيكستان وأوزبكستان كدول مراقبة في التحالف الدولي، كانت المعلومات الأمنية تشير إلى تنامي حركة التنظيم في أوساط الشباب في تلك الدول، وعلى ما يبدو ثمة تقاطع في التحليل بين دول التحالف الدولي حول ضرورة التركيز على داعش وحركته في تلك المنطقة، خصوصاً أن تنظيم داعش خراسان شكل لفترة وجيزة تهديدات أمنية في طاجيكستان وأوزبكستان.
استثمار الفوضى الدولية
أثبتت مقاربة التحالف الدولي حول ضم وأوزبكستان وطاجيكستان بصفة مراقب، أنها صحيحة بعد إعلان السلطات الروسية أن منفذي هجوم «كراسنوغورسك» في ضواحي موسكو هم أربعة من الجنسية الطاجيكية، إذن للمسألة جذر أمني، ولهذا لا بد فعلاً من تتبع مسارات التنظيم في تلك الدول وعلاقته بأنشطة التنظيم المتنامية في سورية، إذ تشير المعطيات إلى أنه نفذ ما يقرب من 35 هجوماً إرهابياً في سورية خلال عام 2023، وما زالت الهجمات في تزايد منذ بداية عام 2024، ولا أعتقد أن هذا بمحض الصدفة.
لا يجب الاستهانة بفكرة عودة نشاط داعش في ظل الفوضى السياسية الدولية وتباين مصالح الدول في مناطق انتشار التنظيم، ولا يجب التعامل مع هجمات داعش بصيغة سياسية يمكن توظيفها ضد دول كما حدث في عملية موسكو التي اتهمت أوكرانيا بالضلوع في هذه العملية، نحن أمام كرة أيديولوجية تتدحرج وتلعب على كثير من العوامل والهوامش خصوصاً هشاشة الإجراءات الأمنية، ذلك أن الثمن سيكون قاسياً لاحقاً.
فهل يستثمر «داعش» ضعف التعاون الدولي الأمني وظهور قضايا وصراعات جديدة في العالم والشرق الأوسط ويعيد ترتيب أوراقه؟.